وداعاً أسطورة كرة القدم (1)

ليلة البارحة كنت خارجاً من مكتبة الصفار وفي يدي كتاب صحي مترجم بعنوان “5 خطوات لكشف ومعالجة النوبة القلبية” للدكتورة الهندية “انجالي أرورا”، صعدت للسيارة وفي بالي عناوين الكتاب الفرعية “هل كنت تهتم بقلبك؟ تعرف قلبك، كيف تعالج نوبة قلبية”، وإذا بابنتي تبلغني بالخبر “مات مارادونا”.

وكأني لم أستوعب ما قالت مبدياً لها دهشتي، وكررت العبارة ثانية على مسمعي، قلت لها: يمكن إشاعة فقد خضع لعملية جراحية في الدماغ وتكللت بالنجاح وخرج من المستشفى قبل أسبوعين وهو يمر بفترة نقاهة في منزله، قالت: كل التويتر ضاج بالخبر.

وحين وصلت البيت فتحت جوالي وإذا بكم هائل من رسائل الأصحاب والجروبات المتنوعة تتناقل خبر الوفاة، وفي الحال تنقلت بين القنوات الإخبارية وإذا بقناة “فرانس 24” تنقل حواراً مباشراً مع بعض الوجوه الرياضية، ومكتوب في أسفل الشاشة، عاجل: وفاة أسطورة كرة القدم دييغو مارادونا، المراسلون يؤكدون أن سبب الوفاة سكتة قلبية! يا إلهي، أسمع الخبر وأقول يا لها من مفارقة غريبة وأمامي عنوان الكتاب الجديد المتعلق بصحة القلب!

تسمرت أمام الشاشة مشدوداً لمشاهدة حوار مع الصحفي الرياضي “وديع فيعاني”، يتحدث عن حياة مارادونا وأهم إنجازاته ومسيرته الكروية، أتاني ابني محمد وطلب مني أن أكتب موضوعاً عن مارادونا ليس كلاعب فذ وشخصية استثنائية، فهذا الشيء يعرفه الجميع بل يريد مني أن أستعرض مواقفي ومشاهدتي وذكرياتي عنه، فقلت له: أحاول أن أستجمع ما علق في الذاكرة ولو على سبيل الدردشة مع إبراز صور من الماضي الخالي من المحطات الرياضية والسوشيال ميديا.

ماذا عساي أن أقول عن شخصية شغلت العالم بموهبته الفريدة وأسبغت عليه الألقاب تلو الألقاب، أسر العقول والقلوب، قلوب تنبض حباً مضاعفاً ومتجدداً له على مدى أجيال وأجيال، وحالات عشق لا متناهية لم يحظ بها من اللاعبين سواها، إنه أسطورة كرة القدم في مشارق الأرض ومغاربها.

تلوذ بي الذكرى متدثراً بالأيام الخوالي مع أصوات هادرة تنبعث من التلفاز الملون، جماهير تردد “ارجنتينا ارجنتينا”، عيوننا ترقب الفريق ذا القمصان الطويلة الموشحة بخطوط الأزرق السماوي والأبيض والشورت الأسود، كنا جلوساً بأعمار مختلفة في صالة نادي الهدى بتاروت برفقة الأصحاب وأعضاء النادي نتابع بشغف المباراة الختامية لكأس العالم 1978 بين المنتخب الأرجنتيني والمنتخب الهولندي ذي اللون البرتقالي.

مباراة مثيرة طال وقتها على مدار ساعتين حبست الأنفاس، وأسفرت النتيجة لصالح الأرجنتين بنتيجة 3-1 بعد حسم جاء في الوقت الإضافي الثاني من عمر المباراة، رفع الكابتن باساريللا الكأس وطاف به أرجاء الملعب محمولاً على الأعناق، وشرائط الأوراق والقصاصات الصغيرة تغطي المضمار والمستطيل الأخضر، تحسب الارضية كأنها مغطاة بالثلج.

هوس رياضي مجنون وسلطة ديكتاتورية بالمرصاد ساهما في تحقيق النصر، سجل التاريخ أن منتخب التانغو أحرز كأس العالم لأول مرة على أرضه وبين جماهيره، ليلتها لم تنم الأرجنتين، نسي الشعب فساد السلطة وبطشها الذي لم يرحم أحداً، كان النصر بمثابة مخدر للمواطنين تناسوا فيه كل آلامهم وأوجاعهم وحقوقهم المصادرة.

وبينما نحن خروجاً من نادي الهدى في وقت متأخر من الليل كل منا يبدي التعليقات من دون تثاؤب مستعرضين سير البطولة ونتائجها ومستوقفين عند المهاجم الأرجنتيني “ماريو كمبس” ورفاقه اردلييس وفيلول ولوكيه اوفيديو وفالنسيا وغالفان وغيرهم، لاعبون فنانون لكن العنف متلازم كظلهم، وكيمبس ذو الشعر الطويل والقامة الفارعة أفضل لاعب في البطولة وهدافها بعد تواطؤ منتخب البيرو الذي فتح شباكه على مصراعيها أمام الأرجنتين، بحصيلة نصف درزن أهداف من أجل إبعاد العدو اللدود منتخب البرازيل المتعادل معه بالنقاط.

فارق الأهداف هو الذي مكن الأرجنتين من بلوغ المباراة الختامية، وصوت خالد الحربان المتهكم على النتيجة “أنا على أخي وأنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب”، قصده أن كل دول أمريكا اللاتينية تتكلم الإسبانية باستثناء البرازيل تتكلم البرتغالية، فاللغة كأنها حالة مصاهرة ونسب.

وقيل حول هذا الأمر بأنه لا يوجد دليل واضح على ذلك التواطؤ، لكن الغريب في الأمر أن الشوط الأول كانت نتيجته واحد صفر للأرجنتين، ما يعني خروجها نهائياً وعدم بلوغها النهائي فسوف يكون الطريق مفتوحاً لصعود البرازيل لو ظلت النتيجة على حالها وبالحد الأدنى حتى لو وصلت إلى 3 صفر، لكن حدثت المفاجأة المدوية التي لم يتوقعها احد، في الشوط الثاني وخلال 20 دقيقة جاءت خمسة أهداف متتالية قبل أن تلفظ المباراة أنفاسها الأخيرة!

وعند عودة منتخب البيرو لبلادهم قذفوا بالحجارة في العاصمة ليما، “كثرة الأهداف ملأت خبيثي النوايا بالشكوك وملأت بالشكوك طيبي النوايا”، كما يقول الروائي الأوروغواني “إدواردو غاليانو”، وحسب ما قيل “… مما جعل البطولة عفنة الرائحة”، لكن الرائحة تلاشت وفوضى الانقلاب العسكري تبددت وانتهاك حقوق الإنسان تبخر في عالم النسيان عند مصافحة كأس الذهب، كرة القدم جنون وسحر لا يقاوم.

بعد أيام من تلك المباراة الختامية ذاع اسم الأرجنتين شعبياً على مستوى العالم وتداول على السنة الصغار والكبار وبين الأزقة وفرق الحواري وكل دروب ديرتنا وطلاب المدارس، وعلى أبواب صالة نادي الهدى أسمعنا الحاج علي العرادي رحمه الله، وهو ذو ذاكرة كروية زاخرة، ناقلاً لنا على لسان مدرب الأرجنتين سيزار مينوتي “عندي مفاجأة ستدهش العالم، موهبة كروية قادمة، لاعب صغير في السن اسمه مارادونا، خشيت أن أزج به في معمعة هذه البطولة الحساسة وهو قليل الخبرة”.

انحفر هذا الاسم في ذاكرتي منذ تلك اللحظة، وبعدها عملت صحيفة حائطية رياضية مدرسية مع ابن عمتي نضال محمد حسين كلها صور احتفالية عن فرحة منتخب الأرجنتين مأخوذة من مجلة الصقر القطرية، حازت على إعجاب مربي الفصل أستاذنا عبد الرحيم وقال لنا “إيه دا براڤو عليكم يا أولاد”، عندها تسلل في نفسي الميل الكروي لمنتخب الأرجنتين منذ ذلك الوقت وإلى اليوم ناقلاً هذا الميل لا شعورياً إلى أولادي.

بعد عام من تحقيق منتخب الأرجنتين كأس أغلى البطولات العالمية طاف بأوروبا، متعادلاً مع منتخب إيطاليا في روما 2-2 في مباراة ودية، وبعدها بأيام لعبت الأرجنتين مع منتخب هولندا في زيورخ بسويسرا بمناسبة مرور 76 عاماً على تأسيس الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا”، احتفال جمع المنتخبين اللذين بلغا المباراة النهائية في كأس العالم الأخيرة، عندها ظن الجميع أن الطواحين سترد الصاع صاعين، وخصوصاً أنها تقام بين الجماهير الأوروبية المتحمسة للمنتخب الهولندي، لكن منتخب التانغو ظفر بالكأس بضربات الترجيح 8-7 كان ذلك عام 1979.

حينها أجمعت الصحف العالمية على أن “منتخب الأرجنتين سيد العالم كروياً دون منازع”، ولحق هذا التتويج، منتخب شباب الأرجنتين تحت سن العشرين، فوز أتى بواسطة أقدام الفتى الذهبي القادم بقوة، بهدفه الحاسم ضد شباب منتخب الاتحاد السوفيتي في طوكيو، حينها انتبه العالم لبزوغ نجم ساحر اسمه مارادونا الذي سيرسم الفرحة على قلوب وعشاق كرة القدم في كل مكان.


error: المحتوي محمي