أنا من جيل، كما بعضكم متعكم اللهُ بعمرٍ مديد وصحة جيدة، شبَّ مع رائدِ النكتة والطرفة الفنان عبدالحسين عبدالرضا، المتوفى عام ٢٠١٧م، بما يعني أنه مستغنٍ عن التعريف. لم يكن في السنواتِ الأولى من طفولتي، منتصف السبعينات، في بيتنا تلفاز فكنت أحرص على نيلِ قسطٍ من الفكاهة في بيتِ الجيران الكرام، وكذلك الاستمتاع بفناني كرة القدم، مثل اللاعب العالمي الأرجنتيني دييغو أرماندو مارادونا، الذي توفي يومَ أمس، فذاك سحرنا بالطرفة والنكتة وهذا سحرنا باللعبة!
اشتهر عبدالحسين بلقب “حسينوه” فتراه في المسلسلات وتراثه القديم وطِباعه الجامدة في مغامراته وتظن أنه لا يتغير، وإن كان بعضها من لوازمِ التمثيل. ولعل هذا الاستقرار في نمط سير الحياة كان من سماتِ ذلك الجيل، فتراه يعمل في شركةٍ واحدة حتى يتوفاه الله، ويحتفظ بنفس الطاقم من الأصدقاء حتى تفرقهم الأقدار، ويرغب في نفسِ الأكلات، ويسافر البلدَ الواحد عدة مرات، ويقود سيارته من النوعِ ذاته في مسارٍ واحد طول المسافة. حتى أكاد أعجز على تعداد الأفعال التي تسير بها حياته على نمطٍ واحد، رتيب، لا يتغيّر.
وأجمل ما كان في أبناءِ تلك الفترة أن أحدهم يحب ويتزوج ويقضي كلَّ أيامه مع امرأةٍ واحدة:
كم منزلٍ في الأرضِ يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزلِ
هكذا هي حياة الكثير حتى يظن من يتعرف عليها من أبناءِ الجيل الحاضر أنها مملة وفاقدة للمتعة كلياً، لكنها كانت ممتعة بالاستقرار والنمطية المتوقعة. فهاهم بعض الأصدقاء الشباب يروني تقريباً كلَّ صباح، في نفسِ الساعة والدقيقة وفي نفس المكان، وإذا ما هموا بالسؤال عن السبب أخبرتهم عن جيل “حسينوه”، الجيل الذي حفظ بيت الشعر:
الطبع والروح مخلوقان في جسدٍ
لا يخرج الطبعُ حتى تخرج الروح
فإذا كان من طبعِ الحياة حتمية وجود الأضداد والتغيير، فليكن مخلوطاً بالاستقرار والثبات وعدم التغيير من الجيد للأسوأ وألا يكون التغيير فقط لزوم ما لا يلزم. فهي – الحياة – ليست لعبةَ أرجوحة والناس فيها أطفال صغار!
هذا الأسلوب في الحياة بشرط أن يكونَ جميلاً، هو “النظام” الذي يوفر وقتنا، ويزرع فينا العادات الجيدة، ويقلل الفوضى والجهد والطاقة والخطر في حياتنا، نحتاجه لنعيش بانتظام وسلام. وهو “النظام” الذي اتصف به الناجحونَ والمبدعون من الناس في الماضي والحاضر.