مساء أمس حاولت أن أعدّ نعمَ الله، أو بعضها، لكني عجزت ولم أستطع! جال في فكري واحدةٌ من كثيرٍ من تلكم النعم التي تميز بها البشر وهي نعمة البيان الذي علمه سبحانه وتعالى الإنسان ولم يعلمه غيره من المخلوقات.
هذا البيان هو الذي لو رأينا منظراً بديعاً رسمناه في لوحةٍ ملونة بأقلامٍ وريشة، ولو كنا شعراء نظمنا فيه قصائد، ولو كنا كُتَّاباً سالت أفكارنا حبراً على الورق. هو الأوعية التي ينتقل عبرها الفنّ والإبداع والعلم وكلُّ منجزاتِ البشرية التي اختص بها الإنسان دون غيره، فهل سمعت مثلاً أن للقرود مقالات علمية، أو قصائد معلقات أو حتى روايات أدبية؟
لا يحتاج إنسان سوى العقل والبصر ليرى كم في الماضي والحاضر من مبدعين رسماً وقلماً، منهم من رسم خرائط هندسية أحالها المهندسونَ والبنائون واقعاً في الحياة وشواهدَ حضارات، ومنهم من رسم أروعَ لوحات فنية. كم في التاريخ من أدباء وفلاسفة وعباقرة وعلماء مرَّوا فأمتعونَا بنتاجهم – ولا يزالون – يعجز الإحصاء عن عدهم؟ فأنا وأنت لو فقدنا ملكةَ البيان لم أكن لأستطيعَ أن أكتبَ لك عنها، وأنت لم تستطع أن تقرأ ما كتبتُ أنا!
تبارك اللهُ أحسن الخالقين، إذ كرمنا نحن البشر وفضلنا على كثيرٍ ممن خلق دون استحقاق منا، سوى مقابل هذا التكريم أن نكونَ عبيداً له دونَ سواه وأن نتحمل مسؤولية إدارة الحياة من خلال عقولنا وإرادتنا وإمكاناتنا الجليلة، ولم يحمل أحداً غيرنا هذه المسؤولية، من حيوان أو غيره من المخلوقات.
سبحان ربنا، لولا هذا البيان الذي تعلمناه لم نكن لنستطيع أن نظهر مكنونات مشاعرنا من حبٍّ وبغض وسرور وحزن، ولم نتشارك ونتحاور فيما نريد أن ننجزه من منافع عامة. لولا البيان لما وصلتنا كلمات ومواعظ وآيات المرسلين وصلواتهم، وبالتالي لم نكن لنعرف أن نحمد من فضَّلنا على كثيرٍ من خلقه تفضيلاً.
القدرة على البيان من أجملِ النعم، إن شككت فيها فاسأل من فقد النطق، كم في نفسه من حسرة، كيف لا يستطيع أن يعبر عما في عقلهِ وقلبهِ وشعوره، وما يفكر فيه ويحس به، فبدون بيان النطق فقد التواصل مع أفراد مجتمعه في كلِّ ما يحتاج فيه إليهم في قضاياه الخاصة، ولا يستطيع التكاملَ معهم دونه، وإن استطاع ليس مثله مثل من ملكه.