ارحموا من في الأرض

من أجمل الصداقات وأطولها وأمتنها هي تلك التي تولد من رحم العلاقات الطويلة التي تفرضها ظروف الحياة ومتطلباتها وتشكلها وتنميها.

من هذه العلاقات مثلاً تلك التي تشكلت فترة الدراسة أو الوظيفة والأسفار، أو حتى الزواج بشكل أو بآخر، فالعلاقة فيه لابد أن تكون أحد العناوين التي تجمع الصداقة، فضلاً عن الارتباط الروحي بين الزوجين، كذلك صداقة الأخ أو الأخت من الرحم، وما أجمل أن يكون أخوك هو صديقك المقرب، أو أختكِ هي صديقتكِ الأقرب.

يعيننا في السياق هنا زميل علاقات العمل والزمالة أثناء الوظيفة وهي أطول فترة زمالة عمرية، ولأطول فترة في اليوم والتي تفوق فترة الالتقاء حتى بالأهل والأقارب، هذه الزمالة التي تمتد ربما لأربعة عقود من العمر وتمر بمختلف الظروف وتتقولب فيها المشاعر. علاقة فريق واحد، أسرة واحدة، تُشكل فيها علاقات جماعية وثنائية على حد سواء، علاقة لابد أن تثمر وتنعكس إيجابياً على أجواء وجودة الوظيفة وعلى القدرات الذاتية والجماعية مما يرفع من قيمة الانتماء والمردود الإيجابي الخاص والعام، وفقدان أي منتسب لهذا الفريق أو ذاك ربما يسبب شرخاً فورياً لا يمكن ترميمه بسهولة.

هذا الترابط المهني يتحول في بعض حالاته إلى صداقات داخل وخارج حدود الوظيفة لدرجة أنك لا تفرق أحياناً بين الرئيس والمرؤوس، هذه الصداقات التي تمتد في بعضها بامتداد الأعمار، وهو ما عرفناه من خلال بعض العلاقات التي ما زلنا نعاينها منذ أدركناها ونحن صغارا.

من المؤسف أن لا تلتفت “بعض” الشركات والمؤسسات لهذه الحالة الإيجابية المهمة وتراعيها وترعاها وتحافظ على منتسبيها وموظفيها بدل أن تستغل الظروف والنظام مثل ما يحصل هذه الأيام، والذي لا ننكر أنه حق من حقوقها وما تنص عليه لوائحها، فتستغني عن بعضهم بأعدادٍ ملاحظة وسط الظروف العصيبة التي نمر بها، فلماذا لا تفعل الجانب الإنساني وتعمل على الحفاظ عليهم بأقصى قدر تستطيع، وخاصة أولئك الذين تقادموا في الوظائف وتلاحموا فيما بينهم، وغيرهم ممن التزموا وأجادوا أدوارهم الوظيفية حتى أصبحت مؤسستهم أو شركتهم هي بيتهم الثاني والذين يحرصون عليها حرصهم على بيتهم الأساس.

كذلك أولئك الذين تلتمس فيها المقدرة والكفاءة من حديثي الانتماء بدل أن تتخذ هذه الجهة أو تلك قرار الفصل والاستغناء في حقهم دون سبب سوى ما تقره أنظمتها وقوانينها متجاهلة ظروفهم الخاصة نتيجة فقدانهم مصدر رزقهم، وغاضة البصر عن الشباب الذين للتو انفتحت أمامهم أبواب الأمل بعد الحلم ليفكروا في تكوين أسرة، وإذا بأحلامهم وآمالهم إلى سراب.

للأسف هناك من يغفل الجانب الإنساني في ظروف يحتاج فيها المسؤول أن يفعل مشاعره بعيداً عن الرسمية والالتزام بروح القانون، وهذا بيده بشكل من الأشكال، كما يحتاج أن يحافظ على الروح الأسرية والفريق الواحد الذي يجمع العمال والموظفين وينعكس إيجابياً على جهة العمل، بدل ما يقوم به البعض من إجراءات تؤدي لتصدع بنيان منظوماتهم ملحقاً الضرر بلا شك على الأداء الوظيفي وبالتالي تراجع المنظومة سلباً.

حالات كثيرة نسمع ونقرأ عنها تبعث على الأسف، في الوقت الذي لا يمكن حتى للجهة المسؤولة عن نظام العمل والعمال أن تفعل شيئاً في ظل القانون، الأمر الذي يؤدي بأسرٍ كثيرة إلى الضياع والعيش تحت حافة الفقر، وكل ذلك بسبب جرَّة قلم ما كان يجب أن تجر لو راعينا المصالح الخاصة كما نراعي المصالح العامة، فهناك خيارات عدة لو أن هذه الجهات تأنت واتخذت ما يناسب الطرفين في الحد المقبول وأبقت على هؤلاء الشباب في أغلبهم، وصارت لهم سنداً بطريقة تحفظ ماء وجوههم وتبقي على لقمة عيشهم توازياً مع القدر الذي لا يؤثر على وجودها ونشاطها، وتساندهم وسط هذه المحنة التي نمر بها جميعاً وهو الأفضل بلا شك إلى أن يفرجها الله قريباً بإذنه تعالى بدل القذف بهم إلى المجهول.

فمن الواضح أن ما جرى ويجري هو بسبب التبعات التي خلقتها الأزمة، والأمر مفهوم ومسلم به لو أن الظروف كانت عادية وجرى فصل أحد هؤلاء لأسباب قطعية أخرى ومثبوتة بالدليل، ولكن لا يمكن فهم ذلك في ظل ما نمر به، حيث لا يمكن لأحدهم أن يجد وظيفة بديلة حالياً، والمقبول بدل ذلك إنسانياً وإسلامياً ونحن في بلاد الإسلام الأول أن نقف مع بعضنا في الشدة قبل الرخاء خاصة مع أبناء الوطن كل الوطن.


error: المحتوي محمي