يا له من مسكين

ورد عن أمير المؤمنين (ع): “مسكين ابن آدم، مكتوم الأجل، مكنون العلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقة، وتقتله الشّرقة، وتنته العرقة” (عيون الحكم والمواعظ ص ٤٨٨).

وأي نداء ووعظ مؤثر يسمعه الإنسان ويستنير به في فهم نفسه والحياة كهذا التوجيه البليغ من أمير المؤمنين (ع)، والذي يعد علاجاً شافياً لانتفاخ الذات باتجاه الغرور والتكبر على الغير، فيشعر الفرد بأنه شخص مميز ويمتلك من المقومات النادرة التي لا يمتلكها غيره، مما يجعله في برج عالٍ لا يرى فيه سوى قزمية الناس وصغرهم بحسب زعمه، فكيف يمكن للفرد أن يتخلص من جذور الترفع على الناس والنظرة المتعالية تجاههم؟

يوجه أمير المؤمنين (ع) إلى التفكير والتركيز الذهني على جوانب الضعف الحقيقية في نفسه؛ لكي تتبدد نظرة الوهم المستندة على تملك بعض أسباب القوة من ذكاء ومال وجاه، فإنه في وصف ضعفه يعبر عنه الإمام (ع) بالمسكين، أي من يستحق الشفقة والعطف بسبب وهنه التام في كل شيء، فهل يمكن لهذا المسكين أن يتعالى وهو فقر محض في كل شيء؟!

الوجه الأول لمسكنته هو مجهولية العمر الافتراضي له في هذه الدنيا، فليس هناك من علامات تنبئ بموعد رحيله أو قرب دنو أجله، فعمر الإنسان خاضع للحكمة الإلهية نجهل متى يحل على ابن آدم، فلا المرض ولا كبر السن ولا المرور بحوادث أليمة يعني الموت، فهل يحق للإنسان المسكين أن يتعالى وهولا يعرف متى يرحل؟!

الوجه الثاني في مسكنته هو مكنون العلل أي خفاء أسباب الأمراض التي تصيبه وتنوعها من جهة أخرى، وها هو الطب الحديث مع تقدمه وقدرته على القضاء على كثير من الأمراض إلا أنه يبقى عاجزاً أمام مخلوقات لا ترى بالعين المجردة تفتك بالأجسام ويبقى مكتوف اليدين أمام إيجاد حلول لها، كما نراه في الجائحة التي ألقت بظلالها الثقيلة على البشرية دون إيجاد لقاح ناجع لحد الآن، فكيف يمكن لهذا المسكين الذي يظهر ضئيلاً وضعيفاً أمام المرض فيفقده القدرة على الحركة، بل ولا يهنأ له طعام أو شراب بسببه.

والوجه الثالث لضعفه أنه محفوظ العمل، فسعيه في الدنيا مكتوب ولا يغادر صحيفة عمله منه صغيرة أو كبيرة، سواء منه سار خلف عقله فعمل صالحاً وتجنب مسقطات النفس أو انقاد خلف شهواته وأهوائه فارتكب الخطايا، فمن وراءه يوم القيامة فيه سيحاسب على ما جنت يداه وما تفوه به من منطق، فهل يحق لهذا المسكين أن يحطم سور القيم الأخلاقية فيستكبر ويتجبر ويعتدي معنوياً أو مادياً على الغير، وهو سيواجه مصيراً قاتماً وعقوبات أخروية لا قبلة لجسمه ونفسه الضعيفة على مواجهتها، وإنما العاقل من اتعظ وعرف قدر نفسه وخالف هواه.

الوجه الرابع هو ضعفه في المواجهة مع أصغر الكائنات، فيحسب البعض من مفتولي العضلات بأنه يمتلك قوة يستطيع من خلالها قهر كل شيء من حوله، بينما هو في مواجهة بسيطة مع حشرة صغيرة كالبعوضة (البقة) يسقط أمامها بالضربة القاضية، فتصيبه بالمرض وقد تقضي على حياته.

والوجه الخامس لضعفه هو نهاية حياته لا تحتاج إلى سبب قوي يقضي عليه، فقد يخاف من الموت بسبب حادث أليم أو سقوط من مكان شاهق بينما يأتي حتفه من حيث لا يتوقع، وإنما تتعدد أسباب الموت بعدد أنفاسه، حتى أن أبسط الظواهر التي تمر عليه كثيراً كالشرقة (الغصة في الحلق) يمكن لإحداها أن تقضي على حياته، فمراعاة إجراءات السلامة والصحة لابد منها ولكنها لا ترفع سقف الآمال لحفظ النفس من العطب!!

والوجه الأخير لجوانب ضعفه يتعلق بحفاظه على أناقته وجماله والاهتمام الزائد بها حد الشغف، فإنه يتجنب الشوائب والأقدار لئلا يتسخ بدنه أو تظهر عليه أي رائحة كريهة، ولكن في جسمه ما يؤرقه ويزعجه من ظهور رائحة العرق المؤذية، فهل يمكن لهذا المسكين أن يختال فرحاً ويتعالى؟!

بحق هذا الإنسان المسكين الذي يملأ حياته بالفرحة ويحسب أنها تدوم معه في كل أوقاته، ويا للمفاجأة أن حياته لا يتحكم في شيء منها بشيء، إنها الدنيا الفانية التي يتقاتل من أجلها البشر ويسفكون دماء بعض ويسرق القوي قوت الفقراء، وفي النهاية يخرج منها الجميع بلا شيء أبداً.


error: المحتوي محمي