احفظوا النعمة

يذكر لي أحد الأصدقاء الأعزاء من جنوب بلادنا الغالية المملكة العربية السعودية، حيث كان في زيارة إلى محافظة القطيف بدعوة من أحد أصدقائه القطيفيين، أنه لم تكن بالنسبة له العادات والتقاليد مختلفة كثيراً قياساً بما هو في الجنوب إلا أمور بسيطة، ويسترسل صديقنا في سرد روايته ويقول كنت سعيداً للغاية وخاصة أنها كانت الزيارة الأولى لي إلى محافظة القطيف، فمنذ هبوط الطائرة من مطار الدمام حتى دخولنا قلب القطيف قد حفوته باستقبال فاخر ومشرف.

بعدما استمتعنا بسماع الأناشيد والتهاليل في ذكر الله والمدح النبوي وأهل بيته الأطهار (ص)، فُتحت لنا القاعات الفاخرة وكانت مهيأة ومنظمة وكانت الطاولات قد ملئت بأطباق الطعام المختلف، حيث تنوعت بين الأطباق الخليجية والشامية وفي الوسط الطبق الرئيسي الوليمة والتي يعتبرها الخليجيون جوهرة الطعام.
بدأنا ببسم الله، تناولنا طعامنا الشهي واللذيذ حيث ملئت بطوننا وحمدنا الله وشكرناه، ولكن قبل مغادرة طاولة الطعام لاحظت بعد مسح سريع على الطاولة أن الطبق الرئيسي مع بعض الأطباق لم يتغير منها الشيء الكثير، بل إن بعض الأطباق لم تلمس إطلاقاً غير أنه تم فتحها فقط.

وبعد أن كنا نتهيأ للانتقال إلى الصالة الأخرى، رأيت ما لم أتوقعه ولا بمقدار واحد بالمائة من هذا الطيف من بلادنا والذي يعد من أبرز المتعلمين والمثقفين والمتنورين في بلادنا، والذي أحرص على متابعة أخبارهم التنموية والثقافية أولاً بأول عبر الصحف الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي ولا أخفي أني شديد الإعجاب بهذا الطيف المميز، رأيت الأطباق تقلب على بعضها البعض، والطعام يختلط ببعضه البعض استعداداً لرميه في القمامة، بغية تنظيف الطاولة لمجموعة أخرى على حساب إهانة النعمة أو دون الالتفات لقيمتها المعنوية والدينية.
وكان في ظن صديقنا الجنوبي أن العادات في حفظ وتقدير النعمة لا تختلف أو لا تبعد كثيراً بين المواطنين، وخاصة أن بلادنا مرت بفترة تاريخية بفقر وجوع لمس كل مناطق البلاد من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها، كما هو حاصل حالياً في بعض الدول من حرمان من هذه النعمة، وعندما حل على بلادنا الخير والبركة حل على جميع المناطق دون استثناء، فمن ثَم كلنا شعرنا بإحساس قيمة النعمة قبل وبعد، وهذا مما أخبر به آباؤنا وأجدادنا وأذاقونا مرارة ما مروا به وشاهدوه من خلال سرد تلك الفترة التاريخية علينا، ثم قسماً والله لولا الحياء لأوقفت هذه الإهانة على النعمة وطلبت منهم حفظها لي، ولا أراها تهان وترمى بهذه الصورة غير اللائقة وغير الحضارية، والمعبرة عن عدم الوعي بأهمية النعمة.

كما أنه كان تبرير صديقه القطيفي: هنا العادة لا تأكل الفضلة حتى وإن لم يأكل منها إلا القليل كما رأيت.
وبعدها أوضح صديقنا الجنوبي كيف هي العادات والتقاليد عندهم بين غنيهم وفقيرهم في مثل هذه المناسبات وغيرها، حيث إنه أكد أن الكل لديه قناعة بقيمة النعمة والالتزام بحفظها واحترامها والجميع سواسية أمام النعمة، بل من لا يحترم النعمة بأي شكل من الأشكال تقل مكانته واحترامه بين أبناء المجتمع، حيث تبدأ جماعة معينة بتناول الطعام وبعد التوقف عن الأكل ووصول الجميع حالة الشبع، يحمدون الله ويشكرونه، وبعدها تأتي جماعة أخرى على نفس الطعام تستكمل ما بقي من الطعام وهكذا حتى انتهائه، وإن ظل شيء من الطعام يتم توزيعه على الموجودين بعد إعداده وتجهيزه في أوانٍ حافظة مخصصة  للطعام، حيث لا يبقى شيء يرمى من الطعام في القمامة.

وثقافتنا مبنية على أن أكل الفضلة من بعد إخوانهم المسلمين هي سنة نبوية وفيها شفاء، لا أنه يفهم أنها إهانة أو تقليل من شأن أحد كما يفهمها البعض من أبناء وطني الأعزاء، ومفهوم ثقافة حفظ النعمة ليس حفظها في البرادات حتى وصولها إلى انتهاء صلاحيتها وبعدها تكون نهايتها في القمامة، فهذه الثقافة من تلك، وإنما مفهوم حفظها معرفة قيمتها أولاً، وثانياً معرفة كيفية إدارة النعمة تحت مفهوم الاعتدال والتوازن عند حدود حاجة الشخص، وهذا ما وجهنا الله تعالى إليه حين قال في كتابه الحكيم في [سورة الأعراف آية ٣١]: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} صدق الله العلي العظيم.
هل ممكن أن تتغير هذه العادات والتقاليد، لأجل حفظ النعمة وحتى لا تقل قيمتنا وشأننا بين العربان؟



error: المحتوي محمي