قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف الآية ١٠ – ١١].
تشير الآية – بأسلوب تشويقي – إلى ما يضمن للإنسان السعادة في الدارين وما يوصله إلى بر النجاة، فتقرب مفهوم المعتقد الإيماني القائم على الفكر الناضج وكذلك العمل الصالح بأنه تجارة مع الله تعالى تقوم على مبدأ الربح والخسارة، والذي يفهمه ويستوضحه كل فرد بشكل جيد في كل تعاملاته وطموحاته، إذ أنها غريزة فطرية موجودة عند الإنسان تحركه نحو كل ما يجلب له النفع وتصرفه عن كل ما يعود عليه بالويل والخسران.
فتحث الآية الكريمة من استوعبوا حقائق الإيمان وحركوا دفائن عقولهم نحو التوحيد والنبوة ووصلوا إلى هذه المعارف التي تؤهلهم إلى تطبيق وتجسيد القيم الدينية التي بعث بها الأنبياء والأئمة (ع)، وتدعو إلى الخشية من الله تعالى ومحاسبة النفس والتمسك بالقيم الأخلاقية، فمن استوعب هذه المفاهيم فإنه مؤهل لهذه الدعوة الإلهية العالية والتي نتيجتها النجاة من العذاب الأليم، والذي أعد لأهل العناد والكفر ممن وصلتهم الرسالة ولكنهم أطبقوا على التعامل معها بالأهواء فانصرفوا عن الحق، أو من غلبتهم شهواتهم فقادتهم نحو ارتكاب الخطايا والعكوف عليها دون رادع من قيم أو ضمير واع، أما هؤلاء المؤمنون الذين خافوا ربهم فإنهم يندفعون بهمة عالية نحو الاستجابة والتطبيق والامتثال لهذه التوجيهات والإرشادات للتحلي بالصفات الكمالية، ويجمعها في هذه الآية الكريمة مفهوم البذل والعطاء والتخلي عن الأنانية وشح النفس، عطاء بالإنفاق في سبيل الله تعالى بشيء من ماله على أوجه الخير وبلسمة آلام الفقراء واليتامى، وعطاء بمستوى التضحية في سبيل الحفاظ على الدين وقيمه إذا تعرضت لهجمة شرسة من أعداء الله تعالى، فإن المؤمن الشجاع درع حصين أمام هجمات يراد بها السوء للإسلام والمسلمين، وليس هناك من رقي وكمال لشخصية المؤمن كانعتاقه من أغلال حب النفس والمال بالنحو السلبي، فمتى ما تحلى بروح العطاء وجعل ماله ونفسه تحت رهن التعاليم الإلهية فإنه من الفائزين، ومتى ما استحوذت على الفرد غريزة حب المال والنفس بنحو الطغيان فإنه سيكون من عشاق الدنيا والمفتتنين بمظاهرها الخداعة، ويحسب أن ربحه وسعادته ستكون بتحصيل اللذات وجني الأموال وتكديسها، بينما تعد هذه التجارة بائرة خاسرة وذلك أنه سيرحل من الدنيا مخلفاً وراءه كل شيء، وسيواجه في يوم الحساب تبعات ما اجترفته يداه ويعاقب على الخطايا التي ارتكبها.
التجارة الحقيقية تتحقق بالاستناد إلى حكم العقل وقوة التفكير الواعي للبحث والاستقصاء عن المعارف، وفي الانعتاق من حبائل الغرائز المغيبة لحكم العقل والمجنبة لصاحبها طريق الكمال والاستقامة وسمو الروح، وتذكر الآية الكريمة جانبين لهذه التجارة المنجية، وهما: الجانب العقائدي المتمثل بالإيمان بمعارف التوحيد والنبوة والميعاد وما يتعلق بهم من بقية أصول الدين، وهذا يعني تحريكاً لعقله الباحث عن الحقائق مستعيناً بالأدلة والبراهين المحكمة.
والجانب الآخر هو الانعتاق من غريزة حب المال والنفس بنحو الطغيان الجارف، حتى يعد مسألة وجوده بأي نحو كان ولو فقد كرامته وعزته ومورس بحقه الإذلال والإهانة أهم ما يحافظ عليه، أو أن امتلاكه للمال يتحول من وسيلة تحصيل وتوفير مستلزمات الحياة الكريمة إلى هدف أوحد لا يحيد عنه، فتمتلئ نفسه بالطمع والجشع والشح وغيرها من الرذائل!
وهذه التجارة تتحقق بإنفاق شيء من ماله في سبيل الله في أوجه الخير والتنمية في مختلف مرافق المجتمع، والعطاء الأسمى هو بذل النفس في سبيل الحفاظ على بيضة الإسلام من هجمات أعداء الله عز وجل، فهذا ما يحقق الظفر والربح في يوم القيامة.
وتقديم عطاء المال على النفس في الآية الكريمة لا من جهة كونه أشرف وأعظم، وإنما من جهة التوجيه لتهذيب النفس والإشارة إلى ما يحتاجه المجتمع من بذل يبلسم آلام المحتاجين والأطراف الضعيفة في المجتمع؛ درءاً لتوجههم – مع افتقادهم للأيادي البيضاء – إلى طريق الفساد وتحصيل المال من موارد الحرام، مما يؤدي إلى كارثة تحيق بالمجتمع تدميراً.