تنبؤات درامية أم سينما متواطئة.. 52

استدارت الكاميرات وأشعلت الفلاشات، وتحركت الأرجل على مسرح الخديعة قفزاً ونطاً، وكل العيون مبهورة.. أيعقل ما يرى، أحلم أم خيال، وهم أم واقع، أصحيح كل ما يرى؟ وأي حلم تحقق قبل 51 عاماً ولم يتكرر لحد الآن في القرن الجديد، إعجاز علمي حدث سنة 1969م.

فمنذ ذلك التاريخ دار كثير من الجدل، وارتبكت كثير من الدول، تفنيدات تطايرت ذات اليمين وذات الشمال وفي الأعلى والأسفل، من قبل من؟

من أفواه الاختصاصيين ورؤية الباحثين ونظريات الفيزيائيين وتأكيدات علماء فضاء وفلك، مدونة في كتب كثيرة تحت عناوين صادمة، وفي مقابلات تلفزيونية وحوارات عدة قدمت الدليل والبرهان، خلاصتها أن سينما هوليوود فبركة الصعود على سطح القمر مع وزارة الدفاع الأمريكية!

من أجل ماذا؟ بهدف التفوق على الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة وتخويفه، وإظهار أمريكا بمظهر القوي أمام العالم والأهم أمام شعبها الثائر الذي يجوب الشوارع بمناداة وقف جحيم الحرب الفيتنامية، حيث الفظائع ترتكب ضد شعب أعزل، وتزايد أعداد قتلى الجنود الأمريكان في حرب مفرطة وباهظة الثمن بكل المقاييس.

مسيرات لفت الشوارع وحشود تجمعت في الميادين، اعتلى المنصة المناضل ضد التمييز العنصري وزعيم الحقوق المدنية “مارتن لوثر كينج” ذو الأصول الأفريقية، سنة 1967 قدم خطابه الشهير أمام الجموع الغفيرة، منتقداً حرب فيتنام اللعينة: “هذه الحرب المشوشة قد أضرت بمصائرنا الداخلية ورغم الاحتجاجات الواهنة المضادة لها، فإن الوعود بمجتمع عظيم قد دحرت في ميادين القتال في فيتنام، ومتابعة هذه الحرب المتسرعة قد ضيقت الأبعاد الموعودة لبرامج الرفاه الداخلي، جاعلة الفقراء البيض والسود يتحملون أثقل الأعباء في الجبهة والوطن”.

خطاب ترك أصداءً واسعة في الداخل والخارج، وبعد عام اغتيل هذا المناضل ورجل الدين الحاصل على جائزة نوبل للسلام، الذي عرف عنه استخدام اللاعنف والعصيان المدني للمطالبة بالحقوق المسلوبة.

لكن العنف والوحشية تتفاقم عبر الأسلحة الفتاكة التي تمارسها القوات الأمريكية على أرض فيتنام، ومعها تتجدد الانتقادات والتنديدات وترتفع وتيرة المظاهرات في كل شوارع ودروب الولايات المتحدة الأمريكية، هتافات جماعية مدوية للطلبة “كفى كفى حرباً، كفى كفى دماء” و”مارسوا الحب لا الحرب”، نداءات ضائعة، وأصوات تائهة!

وكأن آذان المسؤولين صماء، لكن أيقظتها رعباً هزيمة القوات الأمريكية في “معركة التيت” على يد القوات الفيتنامية “الفيت كونج” عام 1968، هجوم كاسح قصم ظهر أمريكا في الحرب، فضج الشارع الأمريكي يطالب بمحاكمة الرئيس جونسون وكل وزرائه، وخصوصاً مع ازدياد توالي النعوش الطائرة وعدم حسم الحرب الباهظة، والطلبات المتزايدة من أجل تجنيد الشباب اليافع لدعم المقاتلين الذين يتساقطون بأعداد كبيرة في حرب فيتنام الخاسرة، حتى قوات الاحتياط زجت في الحرب، استنزاف بشري واقتصادي وهزائم عسكرية متسارعة، عندها زاد ضجيج الشعب وعلا صراخاً وصخباً، انطلقت المهرجانات الشعبية بموسيقى الروك آند رول “لا أرى أي حلم أمريكي، بل كابوساً أمريكياً”.

ألبومات غنائية متنوعة صدحت بها هذه الموسيقى التي عكست رفضها للحرب المدمرة، مطربون عديدون ينتقدون غناءً عبر حناجرهم المزلزلة، ومن ضمنها أغاني الفنان الشهير “بوب ديلان” الذي عبر بموسيقاه عن حالة الارتباك الجماعي والإحباط والغضب التي تلت إرسال أبناء العائلات من الشبان والبنات إلى الحرب.

ووسط هذا الصخب الشعبي العارم، والتململ السائد بين أوساط المثقفين والفنانين والأدباء، وانتقادات الصحافة المستقلة، والشحن الاجتماعي المتعاظم ضد الجنرالات وقواد الحرب، وتخبط أعمى وفوضى في إدارة المعارك على أرض فيتنام.

من هنا فكر دهاة الساسة بأمر ساحر، وذلك للخروج من هذه الازمة العاصفة التي أطبقت على البلاد، إذ لابد من إشغال الشعب الأمريكي وصرف أنظاره بشيء خارق فوق العادة وبإنجاز غير مسبوق على مستوى البشرية، فكان التوجه نحو القمر عام 1969 م، هو المخرج من دوامة المظاهرات العاصفة، وبالفعل رتب الأمر مع وكالة ناسا، مع حملة إعلامية مكثفة “سوف نغزو القمر في القريب العاجل”، وظلت الجماهير في حالة ترقب، وعلى أثر ذلك خف زخم المظاهرات، وفي اليوم الموعود دعي ممثلون عن 180 دولة بوضعهم على مدرج ليبصروا عن قرب الحدث الأكبر في تاريخ البشرية، لينظروا وقت إطلاق الصاروخ الذي يحمل المركبة الفضائية التي ستحط على سطح القمر.

عرض مضمون نجاحه بنسبة 100٪، والخطأ ليس بوارد، كما حدث لاحقاً مع تشالنجر 1986 بتفجره بثوانٍ معدودات في الفضاء، والسؤال الحائر لماذا هذه المجازفة العلمية غير المحسومة العواقب، وأمام الحضور وأنظار العالم.

أما كان أولى أن تنجح الرحلة أولاً ويطمئن على سيرها ثم تعرض تفاصيلها على الملأ لاحقاً، وبعيداً عن التريث أو النظر بحذر فالمسألة أساساً مرتبة والمسرحية معدة فصولها، والنتيجة محسومة سلفاً فتمت دعوات الضيوف ووكالات الإعلام العالمية ليروا بأم أعينهم السفر نحو القمر، ولكن كل الذي شاهدوه فقط انطلاق الصاروخ للفضاء ثم اختفى كل شيء وبعد 3 أيام وثلاث ساعات و49 دقيقة تابع العالم عبر رصد الكاميرات، ووسط حملة إعلامية صاخبة، بتسمر العيون في كل قارات العالم ليروا الحدث الأسطوري خلال دقائق معدودات، لكن تلك العيون لم تشاهد مطلقاً لحظات الاقتراب من القمر شيئاً فشيئاً، لم ير تصوير من داخل المركبة وأرقام تعد تنازل زمن الوصول، بعد ساعة، نصف، ثلث، دقائق، ولا حتى اللحظات الأخيرة لما قبل الهبوط بثوانٍ.

كل الذي شوهد مركبة فضائية جاثمة على السطح، ثم ترجل منها رجل الفضاء “آرمسترونج” وخطا خطوات وقال كلمته الشهيرة “هبط النسر، هذه خطوة صغيرة بالنسبة للإنسان، وقفزة كبيرة للبشرية”.

وحسب تقرير صحيفة “التايم” الأمريكية بأن جملة نيل آرمسترونج الشهيرة استلهمت من مجموعة قصص “الهوبيت” لـ جي ٱر توكلين، الذي يصف فيه المؤلف بطل الرواية بقفزه فوق الشخصية الشريرة “ليست قفزة كبيرة لرجل ولكن قفزة في الظلام”.

وقال آخرون ربما تأثر بمذكرة ويليس شبيلي، نائب مساعد المدير في مقر وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، أمر ينفيه “آرمسترونج”، وأوضح أن الجملة وردت في ذهنه في الفترة التي سبقت لحظة الهبوط التاريخية على سطح القمر.

أيعقل أن هذه الجملة وردت عفو الخاطر، أيأتي الكلام بديهياً في مثل هذا الحدث الكوني؟ إنه تلقين تم حفظه عن ظهر قلب، لدراما معدودة سلفاً.

سواء وصل الأمريكان أم لم يصلوا؟ هل كان الأمر كله من أجل العلم خالصاً ومنزهاً من أي أهداف أو أعراض سياسية، أم في الأمر غايات مستترة.

في عرف السياسة، إذا ضاقت بك السبل اخترع حدثاً ما أو قضية مفزعة، للهروب من واقع الحال المتأزم لتشتيت الرأي العام في المحنة أو الورطة التي وقعت فيها.

صعود أم هبوط أم وصول، مفردات تمت باستعراض للقوة من أجل استعادة الهيبة التي فقدت غداة هزائم فيتنام المتتالية، فكان لعقلية الساسة ما أرادوه، هدأ الشارع الأمريكي وانشغل الناس بمعجزة الصعود على القمر ولا حديث عند الناس سوى أحاديث القمر.

تحولت شوارع أمريكا لكرنفالات أفراح أعدتها السلطة وأشرفت عليها وأخرجتها بامتياز.

إنها دراما أمريكية بدلت مفاهيم، وغيرت ولاءات، وخصوصاً المعجبين في أنحاء العالم المفتونين باليسار وشيوعية الاتحاد السوفيتي واشتراكيته البراقة، والمنضوين تحت رايته فقد اهتزت قناعاتهم، وقالوا إن الرأسمالية أخيراً انتصرت، وفي الوقت نفسه وجهت أمريكا ضربات لبكين وموسكو الداعمتين الرئسيتين للقوات الشيوعية الفيتنامية (الفوت كينج) اللتان تمدانها بالمال والسلاح والعتاد والتخطيط والدعاية والإعلام.

من هنا أمريكا لم تتحمل هزائمها على الأرض، فأرادت أن تنتقم لنفسها وتنتصر على الجميع عبر إعجاز خارق لم يصل إليه أحد من قبل، فطارت نحو الفضاء، وحطت ركائبها، ومشت على القمر، وركزت العلم الأمريكي وقالت نحن وصلنا هنا، نحن فوق الجميع، علم خفيف جدا ثبت أرضاً ولم ينخلع أبداً ولم تعبث به الجاذبية المفقودة، ورجال أثقل منه وزناً يتقافزون كالريش؟!

سواء كان حلم الوصول للقمر صدقاً أم كذباً، فقد أصابت أمريكا أقماراً عدة.

قيل إن آخر محاولة للوصول للقمر برحلة مأهولة عام 1973 لكن لم تحظ بصخب إعلامي لأن الوضع السياسي متأزم أمريكياً على أثر فضيحة “ووتر غيت” والتي عصفت بالرئيس “ريتشارد نيكسون” من الترشح لولاية حكم ثانية، فتوقفت دعاية مغازلة القمر أو التنزه على سطحه.

جاء من بعده الرئيس (جيرالد فورد) وسحب القوات الأمريكية من الوحل الفيتنامي وفجأة توقف ضجيج رحلات القمر من ذلك الوقت ولحد الآن، لكن أتى ريغان الممثل المشهور في سينما هوليوود البارز في أفلام الكاوبوي، أصبح بقدرة قادر رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية طوال عقد الثمانينات لولايتين متتاليتين من 1981 إلى 1989 خلفاً لجيمي كارتر.

فهذا الممثل أطلق مشروعاً يسمى “حرب النجوم”، وهو مشروع وهمي، مجرد اختراع أفلام تحت عناوين “حرب النجوم” بأجزائه الأربعة، وهي لعبة درامية أمريكية وبالفعل أخافت الاتحاد السوفيتي وإصابته في مقتل بعد استنزاف ميزانيته في سباق التسلح المختلق، وعلى أثر ذلك انهار اقتصادياً أولاً ثم انهار سياسياً وأخيراً تفكك، نتيجة ألاعيب السياسة وحبكة الأفلام السينمائية، حرب إعلامية خادعة أصابت الهدف بإحكام متقن وأردت الامبراطورية السوفيتية في خبر كان، وعلى أثر ذلك تفككت كل منظومة حلف وارسو، إنه نصر حاسم قلب الدنيا رأساً على عقب.

وعندئذ تنطحت أم الامبريالية العالمية قائلة: “أهلاً بالعالم الجديد” الذي هي سيدته دون منازع.

أي خداع درامي انطلى، وأي إيهام سحر العيون من غزو للقمر إلى تفكك أكبر الدول.


error: المحتوي محمي