حفظ الأمانة شرف

قال الله تعالى في كتابه الحكيم في سورة النساء آية ٥٨ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) صدق الله العلي العظيم.

يستخف بعض العاملين في القطاعين العام الخاص بالأمور الشرعية لجهة عدم الاكتراث بالوفاء بالعقود وأداء الأمانة تجاه جهة عملهم، ومن ذلك على سبيل المثال استخدام أو إعارة أو تملك أدوات المنشأة لحسابهم الخاص خارج ساعات العمل، بحجة أن هذه المواد تتبع للقطاع الذي يعملون فيه، ومن ثَم لا حرج لديهم لو تم استعارة أي قطعة أو أخذها من دون إذن من صاحبها، دون الالتفات للحكم الشرعي ودون مبالاة بمبدأ حفظ الأمانة حيال المنشأة، وذريعتهم في ذلك أنها أدوات عائدة للمنشأة وهم جزء منها وعليه فلا يستلزم الإذن من صاحبها.

وربما برر أمثال هؤلاء تصرفهم بأنهم لم يرتكبوا سرقة من أي جهة كانت، أو أن هذه مجرد خردة يحق لهم التصرف بها متى شاءوا، دون اللجوء للطرق النظامية والقانونية التي تحكم عمل المنشأة.

والمتأمل في الآية الكريمة آنفة الذكر يجد فيها تأكيداً صريحاً من قبل الله سبحانه وتعالى، وتشديداً على أداء الأمانة، والسبب في ذلك الحرص الشديد، عائد إلى أن الأمانة مرتبطة بحق من حقوق العباد سواء كان عاماً أو خاصاً، وربطها بحكم شرعي، واشترط في ذلك الحكم تحقيق عنصر العدالة، وخُتمت الآية الشريفة كذلك بذكر الله مؤكدة أنه من خلال ما يسمعه ويراه وكل ما يدور ويحدث في هذا الكون محكوم بعدالته الإلهية، وهي إشارة تحذيرية إلى أولي الألباب.

وفي الحديث الشريف عن نبينا الأكرم محمد (ص) حيث قال: (آية المنافق ثلاثة: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).

إن الخيانة هي أكبر برهان وعلامة تدل على النفاق والمنافق، فالخيانة للأمانة هي واحدة من الركائز الأساسية الدالة على نفاق الشخص، والملاحظ في الحديث الشريف يوجد فيه تدرج وتسلسل في الصفات المذمومة اجتماعياً، حيث ورد في الحديث الشريف حالة استدراجية واضحة للوصول إلى أخطر صفة اجتماعية، حيث بدأ من صفة الكذب وعدم الوفاء بالوعود، وهذه بحد ذاتهما خيانة كبرى، ولكن الحديث الشريف يكشف أن هناك خيانة أعظم منهما، وهي خيانة الأمانة.

وهذه دلالة واضحة وبينة على أن مسألة الأمانة أمر لا يستهان به عند الله، والآية الكريمة في سورة الأنفال آية ٢٧ توضح هذه الرؤية في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون) صدق الله العلي العظيم.

لقد انطوت هذه الآية الشريفة بالذات على خطاب تحذيري من الله إلى خاصة عباده وهم المؤمنون باعتبارهم أكثر المتشدقين بالمبادئ، وربط خيانة الأمانات كخيانة الخالق وخيانة نبيه، وفق ما يفهم من السياق الوارد في الآية الكريمة، وفي ذلك إشارة واضحة على مدى فداحة خيانة الأمانة.

ولو تأملنا في النصوص القرآنية والنبوية نجدها لم تحدد لنا حجم أو شكل الأمانة برغم ما تحمله من عظيم الجرم والذنب، وهذه رسالة تفهمنا بأن خيانة الأمانة مهما كان حجمها أو نوعها فهي عند الله جريمة وذنب عظيم، والراضون والمتسترون على الخونة كذلك شركاء في الجرم ولهم نفس العقاب الإلهي في الدنيا والآخرة.

فلا معنى للاستخفاف بالأمانات التي أوصى بها الله ورسوله، لأنها تشكل جانباً مهماً من حقوق العباد، وكذلك تمثل سلوكاً شيطانياً مصيره خراب الديار والعباد، لهذا جاءت التأكيدات الإلهية على عدم ارتكاب أو التغافل عن مثل هذه الموبقات المفسدة للمجتمعات والمسيئة إلى أديان الله ورسله.

وهنا لا يفوتنا الإشارة إلى نقطة مهمة قد يغفل عنها البعض من هؤلاء المستهترين بأداء الأمانة، وهو موقفهم من الموجهين والناصحين لهم بالنأي عن هذه الموبقات والمحرمات، فهل يتقبلون النصح من هؤلاء الناصحين والموجهين لهم، وهل يتعاملون مع دعوة الصلاح باعتبارها ناقوس خطر، وهل يبادرونهم بالشكر والإحسان وأخذ العظة والعبرة ومن ثم الاستغفار من ذنوبهم إلى الله سبحانه وتعالى وإصلاح ما بينهم وبين الله، أو تأخذهم العزة بالإثم، وتبدأ عندهم مرحلة الانتقام والحرب ضد المصلحين، بل ويأخذون بالتخطيط والبحث عن طرق للانتقام منهم، وإبعاد هؤلاء الناصحين عن طريقهم لكي يخلو لهم الجو كما يقال.

وهنا تستكشف البذرة الصالحة من الطالحة، حيث إن النفوس الطاهرة سوف تلجأ لمحاسبة النفس والشكر لهؤلاء الناصحين على تنبيههم من غفلة الغافلين، والاستغفار من ذنوبهم إلى رب العالمين وطلب التوبة منه والبحث عن إصلاح ما أفسدوه نتيجة استهتارهم بالأمانات التي أوصى بها الله ورسوله.

أما أصحاب البذرة الخبيثة فترى في هذا النصح أو هؤلاء الموجهين للإصلاح عبارة عن عقبة ينبغي التخلص منها، فيلجؤون إلى كل وسيلة من وسائل الشيطان، من الكذب والخداع والمكر، وخداع الآخر لأجل إقناعهم بإزاحة الشرفاء من دائرة الغنيمة، ويغفلون عن ذكر وتحذير الله لمثال هؤلاء الخونة، حيث قال سبحانه وتعالى: (ويمكرون ويمكر الله والله خيره الماكرين) سورة الأنفال آية ١٨٠.

إن محاربة الفاسدين للمصلين يد أمر متوقع، لأنهم يرون فيهم جبهة لمحاربة مصالحهم وكيانهم، والبيئة الفاسدة عدوها الأول البيئة الصالحة، فلا يمكن أن يجتمعا في مكان واحد، والسبب أن البيئة الشيطانية في حالة استمرار دائم بالتفكير في صناعة أفخاخ شيطانية لإسقاط الآخرين من المصلحين ومحاولة الانتقام منهم قدر استطاعتهم، ولكن ينبغي على كل مصلح أن يكون متوكلاً على الله، وعدم الاستسلام لمبادئ الفاسدين مهما بلغوا من الأمر وما أوتوا من بأس، فالله هو القوي وهو المنتقم الجبار، وعلى المصلحين ذكر قول الله تعالى في كتابه الكريم في سورة المؤمنون آية ٨ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) صدق الله العلي العظيم.

إن أداء الأمانة هو المعيار الإيماني عند الله، فالمؤمنون هم من ويحفظون الأمانات، ومن يراعون عهودهم مع الآخرين أياً كانوا، ونختم بقول الله تعالى في سورة الأعراف آية ٥٨ (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون) صدق الله العلي العظيم.


error: المحتوي محمي