رفقاً بنا أيها الموت

عديد الأصحاب والأحباب غادرونا خلال الأشهر المنصرمة، رحلوا وتركوا في القلب حسرات، نتلوع أسى وحزناً وتمر أطيافهم شريط ذكريات، هذا مشهد وذاك موقف جمعنا بينهم، نسترجع بلوعة حكاياتهم وجميل المحادثات.

وبين فقد وفقد نحاول أن نتنفس الصعداء قليلاً ونتناسى الأحزان، ولكن الموت المتربص بنا يعاجلنا بفقد عزيز تلو الآخر.

وأي قسوة مفجعة على القلب، أن يرحل منا شاب في مقتبل العمر، والقسوة أشد وطأة حين تسمع بكاء شريكة حياتك تبكي بحرقة على فراق ولد أختها، هي زوجتي التي لم تتعافَ بعد من رحيل ولد أختها الذي غادر دنيانا قبل شهرين ونيف في حادث مروع، وإذا بالموت يخطف آخر.

تناهى الخبر ظهر هذا اليوم بأن ابن اختها في غيبوبة، دعونا الله كثيراً أن ينجيه ويعود سالماً لأهله وولده الوحيد “علي”، أن يعود لزوجته اليتيمة وان يعود لوالده المتعب نفسياً وجسدياً، الذي يتوكأ على عصى الآلام وحزن الأيام.

غفوت بعد صلاة الظهر قليلاً وعاجلني النبأ الحزين حلماً، كأني جالس بجوار زوجتي في مكان عام على كرسي خشبي وهي مسترسلة في النحيب، طبعت قبلة على رأسها لعلي أهدئ من أنينها، سألتها ما بك، قالت (ولد أختي حسين مات)، والتفت خلفي فألفيت اثنين من طلابي القدماء يبكيان، فززت من نومي سريعاً، إلا والدنيا اسودت في وجهي، زوجتي ترفل باللباس الأسود وتنوح كالحمام، وهي تقول “بدلاً من ان ينتقل ولد أختي لشقته الجديدة انتقل للقبر”، احتوينا بعض وبكينا كالأطفال، وأنا أتمتم لها بحلمي المفزع.

بكيت بحرقة لم أعهدها منذ زمن، اغرورقت العيون  بالدموع متسائلاً أصحيح الخبر، شيء مذهل لا يصدق، مرتبكاً أفتح صفحة الوفيات، (سنابس، الشاب حسين على محمد مكي القروص في ذمة الله)، يا إلهي، صفعة وبهتان، وحالة توهان.

توجس يوخز الروح، فقبل أيام كانت تستذكر زوجتي وقت مناسبة إحياء وفاة الإمام العسكري بشيء من الأحزان، لارتباطها بذكرى رحيل أحباب ومن ضمنهم عم الشاب الفقيد حسين والد زوجته الحاج (حسن علي آل حمود) كان ذلك قبل 5 سنوات، وها هو القدر يأتي  في ذات التوقيت، ويعاد النحيب للزوجة المفجوعة برحيل والدها بالأمس والآن برحيل زوجها في مثل هذه الأيام.

أي قسوة وأي ألم تخبئه الأيام، هذيان نفسي، والخاطر مكسور، وجروح الأحزان تتجدد، أتلقف من زوجتي كلمات عبر اتصالاتها مع خواتها وبناتهن، وهي تقول: “قلنا بنفرح بالربيع، لكن جانا بلباس الأحزان”.

تتداعى أطياف الذكرى والذكرى مؤرقة معك يا حسين علي القروص، كيف لي أنساك، وعيني الفتك صغيراً وأنت أحد طلابي في مدرسة الإمام مسلم بسنابس صورت لهوك في الساحة والفصول، وبين حين وآخر كنت سأفاجئك بصورك القديمة على مقاعد الدراسة.

عيني عرفتك بعمر الورد تخط أولى الحروف الأبجدية وصف الأرقام والتعابير بالألوان.

علقت رسوماتك في غرفة التربية الفنية مرات، وعلقت على سلسلة كتاباتي “تنبؤات درامية وسينما متواطئة” بشيء من الإعجاب، أحاديث جمة اخذتنا بعد انقضاء ليال فاتحة ابن خالتك الشاب المرحوم معتوق صفوان، كانت سوالف ممتعة لنخرج من ربقة حزن العزاء، تعافينا والله رحيم بالعباد.

قبل أسبوع رأينا بعض بين العشب وممشى كورنيش المحسنيات، أهلاً أبو علي، وبعد تحيات متبادلة تركتك مع خالتك زوجتي تسترسلان في أحاديث عائلية شتى وأنت تقص عليها أحوالاً وأحوالًا، وتبين لها سعيك بالانتقال للشقة الجديدة، أي مكان هذا والربيع يناديك بالنزول فيه، لكن يد المنون طالتك ولسان حال خالتك يقول: (ليس مستقرك في دار جديدة، رحيل للدار الآخرة، لتجاور أمك التي رحلت عنكم قبل ثماني سنوات، رحلت إلى أنيسة القلوب ولحظة غيابها أبكت الجميع وهي الملاية التي تتصدر المجالس بنبرتها الحزينة ومع صوتها تنوح النائحات، هل أتيت إليها يا حسين ملبياً نداء الأم التي اشتاقت لولدها)!

إيه يا أبا علي استعجلت الرحيل وأنت لم تزل في  عنفوان الشباب، أرحلت إليها في زيارة عجلى أم إقامة أبدية.

وداعاً أيها الشاب الذي طمعت بتحدٍ أن تصير معلماً على خطى أبيك المعلم علي القروص، الذي كان أستاذي يوماً وزميلاً لي فيما بعد.

تحقق لك ما كنت تصبو إليه بجدك وحسن الاجتهاد، واللغة العربية تخصصك الممتع.

كنت مولعاً بتدريس طلاب الثانوية، وعاشقاً لمهنة العلم، فتحية اعتزار وفخر أيها المعلم المتفاني.

إيه يا حسين وقفت قبل آخر وفاة عند باب منزلي ظهراً وفي يدك طبق “المحموص”، أخذته منك وكنت على عجل وقلت لي “والدي زينه صحته في تحسن، لا تنسى تسلم على خالتي مع السلامة”!

سلام على روحك أيها الشاب المبتسم للحياة والفرح كبر في عينيك بنجاح أختك الدكتورة زهراء العائدة من بولندا، ابتعثت وانهمكت في الدراسة لتنسى حزن فقد أمها، أتت والفرحة علامة إنجاز، عادت ولكن الحزن برحيلك هذا اليوم يا أبا علي عاد وتجدد.

لله درك يا أبا فرج لصبرك وجلدك واحتساب مصابك إلى الله، لكن أنينك مفجع في رحاب مجلسك، تستقبل ثلة من المعزين وتلوذ عنهم بشهقات أسى وتراكم حسرات وتقاطيع نبرات بكاء “اويلي عليك يا ولدي اويلي عليك يا أبو علي”، ونحيب النسوة يهز جدران البيت.

لله دركن أيتها الخالات والعمات وكل الخيلان على فقدانكم الشبان تلو الشبان.

عظم الله أجوركم يا عائلتي تلاقف والقروص وجميع المعارف والأنساب والجيران.

عظم الله أجورك يا زوجتي العزيزة بفقد ابن أختك، وهو الثاني خلال شهرين، وكذا جميع خالات أولادي،  وعظم الله أجرك يا فرج القروص ومحمد وعبد الله وجميع الأخوات خلود وزهراء وحوراء وكذا أولاد الأعمام.

ليت التنهيدات تكفكف أوجاع حسرات الرحيل.

تبرق صورك يا حسين علي القروص طالباً وأستاذاً تتوالى كالشهب، مرت في سماء دنيانا سريعاً وفجأة ذهب الوميض من دون بوح.

كيف نداري الأيام والجمعات حبلى بالضحكات وأعذب الحكايات، أيام الأعياد وليال أعراس بين الولائم واللمات في “بيت العود”، أي الذكريات ننثرها وأي الكلمات ننتقيها بعد غيابك الأبدي، مالنا ننساك، وكيف ننعاك، زفرات وجع وأسى، لأن رحيلك مفاجئ، صادم، قاس على القلب، يا أبا علي خطفك الموت عنا دون سابق إنذار، رحيل مر، رحيل موجع.

نعلم علم اليقين بأن الموت في رقاب العباد وهو متربص بين لحظة وثانية، لكن أيها الموت ترفق بأرواح الشبان، وترفق بنا، بلدنا كل يوم تخسر روحاً بعد روح، رحماك يا رب من هذه الأحزان.

رحمك الله يا أبا علي رحمة واسعة، وإنا لله وإنا اليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونفوض أمرنا كله لله، والله بصير بالعباد.



error: المحتوي محمي