السيدة مريم بنت عمران قدوتنا

‏قال تعالى: {ومَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وكُتُبِهِ وكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}{التحريم الآية ١٢}.

في ذكر السيدة الطاهرة (ع) والثناء على ما كانت عليه من فضائل وصفات رائعة، تأكيد على حقيقة الكمال المتماثل بين الرجل والمرأة، فكلا الجنسين متاح له طريق الرقي وتنمية القدرات التي وهبها الباري له دون استثناء أو تفريق، فهي (ع) حجة ربانية أقامها رب العالمين على عباده في الحث لهم على التمسك بالأفعال الخيرة والاستقامة على طريق الهدى، ودعوة لهم بتنزيه أنفسهم وتطهيرها من الرذائل والعيوب ومقاومة الأهواء المضلة.

السيدة مريم (ع) ليست بقدوة للنساء فقط بل يستظل الناس جميعاً بنهجها وسيرتها المعطاءة، والتي عمرت فيها أوقاتها بالخير والصلاح بكل قوة وهمة عالية، وهذا هو أحد أهداف سرد القصص القرآنية المتضمنة لذكر الشخصيات العظيمة، فالهدف ليس الثناء عليها فقط وإنما الحث على اتخاذها نموذجاً ومثالاً في طريق الخير وبناء الشخصية الإيمانية، كما كانت عليه السيدة الطاهرة (ع) من صفات رائعة اختزلت مكانتها العالية، فهي (ع) تلك العابدة نقية القلب والورعة المتهجدة، وصاحبة الفكر المرموق الذي تعاطى مع الرسالات الإلهية بالتصديق واليقين وتجسيد مضامينها على أرض الواقع، وقد كرمها الباري بتخليد ذكرها وجعل أفئدة المؤمنين تهوى ذكرها وتلهج الألسن بتعداد محامدها، فما هي تلك الصفات التي توجز جوانب العظمة والرقي والسمو في شخصية السيدة مريم (ع)؟

أولى الصفات هي حفظ النفس من الحرام والتعفف والتحرز عن كل طريق ينزلق بالمرء نحو العلاقات غير المشروعة، والصفة الثانية هي فكرها الناضج الذي أوصلها للقناعة واليقين بتوحيد الله تعالى والإيمان بدعوة رسله وأنبيائه الكرام (ع)، وما أنزله سبحانه معهم من كتب سماوية تشق للعباد طريق الهدى والصلاح، والصفة الثالثة والأخيرة هي القنوت أي الطاعة والاجتهاد في العبادة وإتيان الصالحات.

أما الصفة الأولى فهي العفة والصون والاحتشام والترفع – حاشاها – عن كل مورد يجر نحو الرذيلة وارتكاب الفواحش والمنكرات؛ لتكون قدوة للجميع – وخصوصاً الشباب والفتيات – من الانزلاق في وحل العلاقات غير الشرعية، فمن موارد العفة والاحتشام تجنب النظرة الحرام التي تجر الويلات والتهجم على أعراض الناس، وكم من شاب وفتاة كانت وسائل الإعلام الهابطة والقنوات المنحلة سبباً في إغوائه وسقوطه في مستنقعات الشهوات المتفلتة؟!

وتلك القصص الممتلئة بالإيحاءات الجنسية تشكل غزواً ثقافياً وسلوكياً يراد منه سلخ الفرد عن مدرسة القيم الأخلاقية، فالفكر المحشو بالشهوات والعلاقات غير الشرعية وتهيئة قنوات الاتصال المحرم يجر صاحبه نحو الضياع، فمن لا يدرك مخاطر الاختلاط وشياع المجون أو يتغافل عنه سيدرك يوماً مخاطره، فما يعلو بالشاب والفتاة هي قيم الاحتشام الذي كانت عليه مولاتنا السيدة مريم (ع) حتى عدت مضرب المثل في حفاظها على صونها من أي دنس، والقرآن الكريم يعلن براءتها من كل الاتهامات ومحاولات المساس بطهرها وعفافها، من خلال بيان ولادتها الإعجازية بنبي الله عيسى (ع).

وتحدثنا الآية الكريمة عن الصفة الثانية التي تثني على فكرها الوقاد والذي أوصلها للإيمان اليقيني بتوحيد الله تعالى ورسالاته وأنبيائه (ع) لا عن عاطفة عمياء – حاشاها – بل هي صاحبة عقل رشيد يستمع ويتأمل ويمعن في تلك الأدلة والبراهين الدالة على الوحدانية، فما أروع أن نقتدي بها (ع) في تكوين قناعاتنا العقائدية والفكرية بعيداً عن التعصب والتزمت أو السذاجة والأهوائية.

والصفة الأخيرة هي القنوت أي الطاعة التامة للأوامر الإلهية ومحالفة محراب العبادة والمناجاة، فما ورد في سيرتها الإيمانية هو التحلي بالأنس والانجذاب لذكر الله تعالى بعيداً عن مظاهر الدنيا الفاتنة، فهي (ع) أجل وأشرف من الإقبال على مظاهر زائلة وانشغال القلب بها، فما يستحق منها الاهتمام والعناية هو تقوية صلتها برب العالمين والقوة في إتيان الخيرات والأفعال الصالحة.


error: المحتوي محمي