“يا ولدي، عندما كنت صغيرًا، كان جدك من أمك، يجلسك في حضنه، يلاعبك، ويبتسم، مع ابتسامتك، ويغضب جدًا، حين يضايقك أحد ما”. بهذه الكلمات، التي بين الفينة والأخرى، أكون فيها بين يدي أمي، تحاكيني عن الماضي، عن تلك الأيام، كم، كنت أتلذذ حينًا، وفي الأخرى تنتابني الدهشة.
هل الحنين إلى الماضي، إلى الشخصيات، التي كانت فيه، لها أثرها على نفسية الإنسان من ناحية إيجابية، أم أنها تغدقه بؤسًا وألمًا؟
النوستالجيا، مصطلح يعنى الحنين إلى الماضي، لاستشراف الحالة الإيجابية، وبعث الطمأنينة في الذات، ويراها البعض، بكونها مرتعًا للكآبة والألم.
كل له شرفات، يختزلها الماضي، حكايات عايشها صغيرًا، أو ارتشفتها أذنيه من هنا، أو هناك.
نحن شغوفون بالماضي، تطربنا الكلمة عنه، والتخيل القصصي، شيء ما في الذات، يجعل منه -الماضي-، شيئًا جميلًا، تهفو إليه نبضاتنا.
تلكم الحكايا، تمنحنا دفء اللحظة، رغوة الذكريات، وما التراث، وعشقه المغروس في ذواتنا، إلا دليل على كل هذه النشوة، التي تعترينا.
الآن، أيها القارئ، لتغمض عينيك لحظات، استرجع من الماضي، ما أنت تشتاقه، ما سمعته، وما عايشته، أليس ثمة رائحة ربيعية، أليس ثمة خفقات، تتراقص بين جنبيك، حنينًا، يظلك، وغيمات مطر، حبيباتها، تبلل جبينك، ألا تشتاق، الآن إلى الماضي؟
إن طبيعة الإنسان، تميل إلى الحكاية، لهذا تجد أنه من الأساليب، التي تتبع إلى توصيل المعنى، تأتي الحكاية، على الجانب النفسي، والثقافي، والتربوي..، يقال في تعريف الحكيم، بأنه من جمع عقول الناس في عقله، لذا أن تعيش حياة الناس، وتجاربهم بين عينيك وذات، فكرك وتجاربك، فأنت حينها، احتويت عقولهم في عقلك.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن الكتابة الصحفية، اتجهت إلى الكتابة بالأسلوب القصصي، اتجاه مغاير عن الأساليب المعتادة في الكتابة.
لذا فإن المادة الصحفية، في لونها القصصي، تأخذ طريقها بانسيابية إلى المتلقي، تجعله، يتعمق انجذابًا في المادة، ليكون عنصرًا مشاركًا فيها، ليس على مستوى المعلومة فقط، ولكن على المستوى الذاتي، الشعوري، والتصويري.
قد يأتي مثال آخر، له لونه، ليكون قريبًا من أنفسنا، حدق في ملامح فلذات كبدك، وأنت تحكي لهم قصة عن الماضي، عن حياتك، حين كنت صغيرًا، عن حياة الآخرين، عن الأمكنة التراثية، راقب انفعالاتهم، سترتشف من أعينهم الحياة، وروعة الماضي -فقط جرب-، اصغ لكلماتهم، سيكون مفادها: بابا طابت حجاياك.
وفي ذات الضفة، فإن الأمكنة لها رائحتها، ورونقها الصافي في مرآة ذاكرتنا، هنا كانت خطوات، صغيرًا على دراجتي -السيكل-، كنت ألهو فيها صغيرًا، وهنا، كنا نلعب، نحن الأطفال بتلك الألعاب القديمة، التي اندثرت، وهناك في هذا الطريق، كنا نذهب إلى مدرستنا مشيًا على أقدامنا، وهنا، كنا نقف، لننتظر أن يأتي دورنا، لأخذ الخبز العربي، حيث إن أمي تعد العشاء، مع أكواب من الحليب، ونغمس.
إن استرجاع الماضي، تأثيره من الناحية البصرية، تخيلًا إلى الناحية النفسية، تفاعلًا، حالة أشبه ما تكون، بقطرات ماء بارد، تسقط على جسدك، بعد جولة، اتخذتها ذات دقائق في فصل صيف رطب، كم ستكون هذه القطرات، كالبلسم الشافي، تمنح جسدك عنفوانه.
لتكن نظرتنا إلى الماضي، الحنين، لشرفاته، تتسم بالإيجابية، لتكن ذواتنا في طيفها الأرقى، ونرتشف من رائحتها الفستق، وعنفوان الحياة، مع ابتسامة الشفتين، لأن أمي الآن، ستبدأ قصتها، لأن أمي الآن، جاءت من نافذة الذاكرة، لتهمس في أذني، عذرًا، سأصغي، لأمي..، نراكم لاحقًا.