الدوغمائية تفسدك من الداخل

يرى البعض أن الرجوع للوراء، يُعزّز عملية فهم مسيرتنا في الحياة، لأنهم يعتقدون أنّ الحياة من الصعب استيعاب أبعادها دون العودة لمشاهد سابقة بنت وأسست وأثرت على حاضرنا بشكل فعلي، وأن الحياة لن نفهمها في وقت محدد مجرد من توابعه.

ربما يختلف كثيرون مع هذه الفلسفة، برؤيتهم التي تعزو عملية النجاح لفهم حياتنا بالعيش في الحياة الحالية والتطلع إلى الأمام ودون الالتفات إلى الخلف، وهذا ما يجعل الناس ينظرون إلى حياتهم -من قبيل الممكن العرضي- أنها تحت سلطة أحداث ماضية وتغيرات أخرى ليس بمقدورهم التحكم فيها أو السيطرة عليها.

لذلك حين الحكم على «خلل سلوكي» أو «فشل حياة» فبعضنا يبرر ذلك بأسباب وعوامل أثرت عليه، فدعته لارتكاب ما يخالف القانون أو الأخلاق وأصول التربية، وقد ينطبق الوصف القائل: اتخاذ العوامل شماعة لتعليق الأخطاء الفادحة، فعلى سبيل المثال: اليتم، الفقر، المرض، الوحدة، الغربة، وغيرها، كل ما سبق ليس علّة لتبرير الأخطاء والجرائم والاستمرار في طريق غير سوي، لأن الإنسان يصل لمرحلة نضج تؤهله لتقويم جميع المسارات غير المستقيمة في حياته، والتغلب على كل ما من شأنه أن يُجبره على القيام بما هو مخالف.

عملية الحكم على الذات وتقييم وتقويم الأخطاء، هي قدرة ليست خارقة، لكنها قدرة إرادية فالحكم على الذات والتجرد من سلسلة المبررات، تفتح الرؤية لتصحيح المسار بعد معرفة العوامل الرئيسية والثانوية التي أثرت على نشوء السلوك.

في مشهد لقصة أحد القضاة، دعته نظرته إلى الوراء في حياته، أن يُنشئ أمسيات متتالية، يروي لأحدهم عن سيرته الحياتية، فتضمنت هذه المسيرة قصة بدت أنها قلبت كيان هذا القاضي، لتجعله يعيش حالة من الندم غير المنطفئ، ففي إحدى ليالي الشتاء الفرنسية الصاعقة البرودة، شاهد سيدة تحاول الانتحار بالقفز من أعلى الجسر، لكنه تباطأ في اتخاذ ردة الفعل، وهي محاولة منعها لإنقاذها من هتك حرمة روحها.

رمت المرأة بنفسها أمامه، وهذا سبب له شعورا دائما بالندم، إذ أشعره بأنه أحد أسباب غياب هذه السيدة عن الحياة، هو يعتقد أن اعترافه بما ارتكبه من خطايا يعطيه سلطة أخلاقية لمحاكمة المتهمين في محكمته عن خطاياهم، فيقول «كلما اتهمت نفسي يكون لي الحق في الحكم عليك»

أغلبنا لا يميل للحقيقة والقراءة السابرة المتفحّصة فيما له أثر على تحريك بوصلة حياتنا السلبية، بينما نميل لما نريده نحن ونصَوّر المشاهد والصور، كما نحب نحن وكما نشتهي، وليس كما هي على حقيقتها، لأن ذلك يمنحنا وهم السعادة والرضا الداخلي، فيبدأ العقل الباطن في خلق مجموعة من المفاهيم والقناعات والرؤى الهزيلة، ليتمسك بها ويستميت للدفاع عنها.

معرفتك لحقيقتك هي لك وليست للظهور بصورة معينة للآخرين، لأن الديموغمائية تفسدك من الداخل وتكبلك وتزجّك في ظلمات الوهم وغياب العقل.


المصدر: آراء سعودية.



error: المحتوي محمي