كان شتاءُ بغداد باردًا وجافًا منتصف شهر يناير ٢٠١١م (الموافق العاشر من شهر صفر ١٤٣٢ هجرية) حين حطت الطائرة قادمةً من مطار البحرين، غير أن حرارةَ أنفاسِ الزائرين وحركتهم في صالةِ القدوم غلبت برودةَ الطقس. إجراءات بسيطة طالت كثيرًا لدواعٍ أمنية، ثم ركبنا حافلة بعد فحص شخصي بالكلاب والأجهزة الكاشفة للمعادن. هذه الحالة الأمنية استمرت معنا طول المدة لحين عبورنا من بوابة مطار النجف الأشرف عند العودة.
أخذ الطريق إلى محلة الكاظمية أكثر من الزياراتِ السابقة، ثم بانت قبتان مطرزتان بالذهب وأربعُ مآذن في مرقدِ الإمامين الكاظم والجواد (عليهما السلام). وقبلهما بأمتار حطينا رحالنا في نُزُل يبدو أنه بني في الثمانينات وتم تجديده؛ صغير ومريح قضينا فيه يومين للزيارة والصلاة. ثم إذا جاءت ليلة السفرِ إلى كربلاء أعدَّ متعهد الرحلة الخطة لمن يقطع الطريق بالحافلة ومن يمشي، فعزمنا أنا وزوجتي المشي طول المسافة.
وصلنا مدينة النجف الأشرف قبيل أذان الظهر، وكان لكلِّ عمود إنارة رقم متسلسل، فبدأنا من أقربها، خائفين من أن يطول الطريق، حتى نصل العمود رقم ١٤٥٠، لكنها وكأنما كانت ثمانين كيلو مترًا من وثبات وقفزات في الهواء وليس مشيًا على الأرض. في تجربة المشي استكشاف عادات وثقافات أجناس من الخلائق القادمين للزيارة، وعلى جنبات الطريق موائد الأكل والماء والشاي لا تنقطع دون مقابل، الشاي والخبز الساخن كان من أشهى الأكلات في الطريق. وهكذا حتى وصلنا العمود رقم ٥٠٢ في حوالي الساعة العاشرة مساءً، فغمرنا كرمُ أهل القطيف والأحساء والمدينة المنورة بالأكل والسكن الذي استيقظنا منه فجرًا على أصواتِ الأذان وألحان العزاء.
في ساعات الفجر بان منظر المشاة وكأنما كان الحسين (ع) في عمامته الخضراء ماثلًا أمامهم يستلهمون من تضحياته أعظمَ الدروس، فليس إلا السكينة منعكسة على الجموع الهادئة وهم يحثون خطاهم، يستبقون نحو إدراك كمالهم في الوصول إليه. حالة من الجمال لو استدامت طوال السنة وعمَّت الأرضَ لحقَّ للناسِ أن يفخروا بها!!
بين المشي والراحة في اليوم التالي واستكشاف الطريق والتفكر كيف حدث ما حدث؟ ولماذا وصلنا كأمة حيث نحن؟ اشتد الزحام وبانت لنا في الساعةِ الخامسة بعد الظهر قبةٌ فوقها سارية كلاهما من الذهب، وتحف بالقبة مئذنتان ذهبيتان، فإذا هو نور السيد الحسين (ع)، ثم مئذنتان وقبة مطرزات بالذهب اللامع في مقام أخيه العباس (ع).
أقمنا على بعد أمتار من مرقد الحسين (ع) نزوره حفاة، وهل يجوز لبس النعل فوق الطور؟ بعد يومين أو ثلاثة سررنا بزيارة ضريح الإمام علي الهادي وابنه الإمام الحسن العسكري عليهما السلام في سامراء، وكان الطريق صعبًا والبلدة والمرقد حزينان لم يتعافَيا بعد من اعتداء التهديم، بعدما كان المكان تحفة تسر من رأى!
أشدُّ أيام إقامتنا حزنًا وكآبة كان يوم الأربعين، فلم تهدأ أصوات الزائرين ولم تتوقف عن العزاء حتى نشر الظلامُ أرديته فوق التلال في مساءٍ ذكرنا بالسكون الذي انتاب الصحراءَ جزعًا وحزنًا مساءَ يوم العاشر من شهر محرم سنة ٦١ هجرية. في اليوم التالي أخذ الزائرون في العودة، أما نحن فلملمنا أبداننا بعد يومين وتركنا أفئدتنا حائرةً تنتظر العودة، قاصدين النجف الأشرف لتعزية علي ابن أبي طالب (ع) وزيارته، فوجدنا جموعَ المؤمنين قد سبقتنا من كلِّ حدبٍ وصوب، مستذكرين نداء الشيخ حسن التاروتي رحمه الله:
إذا لمعت نارُ طور الغري
فأنتَ بوادي طوى فاخلعِ
وصلِّ وسلِّم وصِل واستلم
لقدسِ أبي الحسنِ الأنزعِ
ونادِ وقل يا زعيمَ الصفوف
ويـا قطبَ دائـرةِ الأجمعِ
قعدتَ وفي الطفِّ أمُّ الخطوب
تقعقع فـي ضنكِ الموقعِ
جثـت فجثا بإزاها بنوك
على رُكَبٍ قط لم ترفعِ
كانت آخر كلماتنا “نراكَ قريبًا”، لكن مرت سنوات لم نزر الحسين (ع) واشتد شوقنا إليه، فلعلَّ من يمشي هذه السنة وهذه الايام يحمل رسائلنا، فإذا وصل التلةَ القريبة من قبر السيد الحسين (ع)، اعتلاها ونادى في أرواحِ من تخلفوا: هلموا- تعالوا واحضروا، جَزْماً سوف تلبي أرواحٌ المؤمنينَ النداء، وإن منعت حضورَ أبدانهم السدودُ والحدود.