السينما فرجة للروح وتنفيس عن المكبوت، تأخذ المشاهد لأجواء من الهيام فتنسيه لحظته الزمنية، يعيش عالماً آخر وكأنه انفصل مؤقتاً عن واقعه الحالي، يحلق في أجواء من الخيال والفنتازيا، يرتحل عبر الأزمنة البعيدة، في ماضٍ لم يراه ومستقبل لم يشهده بعد، ويرتد للحاضر بأحلام اليقظة.
أفلام لها مفعول السحر، تنعش الحواس، وتداعب الأحاسيس بهجة ومسرات، دراما تعزف على أوتار المشاعر، بأسفار وجدانية ومعزوفات رومانسية، تتجلى بإيقاع حب وأنغام عشق وترانيم غرام، تستفز المخبوء من لهيب الشوق ولوعة القلب، تهب النفوس العطشى ألفة ومودة، تنتصر للعائلة، وتعزز الصداقة والأخوة، ترنو للخير وتحارب قوى الشر، هي الحياة مصغرة بكل تقلباتها سلباً وإيجاباً وإخفاقاً وانتصاراً.
أفلام درامية أوقدت روح الأمل وأطفأت لهيب الغضب ونزعت فتيل الانتقام، وأنارت دروب الصفح والتسامح، بنظرات عميقة ورؤى اجتماعية سامية ومعانٍ نبيلة، روائع أفلام قدمتها السينما نهلاً من عيون الأدب العالمي والتجارب الإنسانية طوال عمرها الممتد على مدى قرن وربع القرن.
بالمقابل لم تكن السينما دوماً رؤيتها إيجابية، أو كلها مقاصد خير، بل على العكس من ذلك، ففيها من المثالب والمساوئ ما يشيب له الولدان.
أفلام خلقت فتناً وأشعلت توترات بين أقوام وأمم، وزينت الشر خيراً، وعكست الخير شراً، وتلاعبت بالتاريخ وزيفت الحقائق، وأثارت حفيظة شعوب وحطت من قبائل، قلبت موازين وحرفت حقائق، باختصار فيها الغث والسمين، كما التاريخ سجل وافر من الصدق والأكاذيب.
معيارية جودة السينما أخلاقياً تتفاوت بين نظرة شعب وشعب، ما تراه مستحسن يراه الآخر قبيحاً والعكس صحيح، خاصة القضايا الإشكالية عن حقب تاريخية أو وقائع دينية أو شخصيات اعتبارية، وعلى سبيل المثال، نطالع في صفحات كتبنا نقداً قاسياً عن شخصية “جنكيز خان” بوصفه إنساناً مدمراً متوحشاً للدماء، ولكن عند شعوب آسيا الوسطى يعتزون به أيما اعتزاز، بل يبجلونه ويعتبرونه بطلاً قومياً ويتبارك العرسان عند تماثيله! وكذا أفلام الحروب بين دولة وأخرى كل ينتصر لنفسه صوابية الحق وكل يجتزئ ما طاب له من سيناريو الأحداث التي تخدم مصالحه.
لكن ثمة عيون مدفوعة دوماً بشهوة الاستحواذ وتمعن في التشويه والتشفي، بقلب الحقائق رأساً على عقب، وأكثر من مارس هذا العبث العجائبي، سينما هوليوود المتفوقة على الجميع تقنية وتمويه وخداع وتحريف لقضايا أدركها القاصي والداني، مخالفات صريحة بخرق الوقائع المشهودة، عجباً لدراما تعشق التزوير والكذب كما في لهيب معارك فيتنام، لقد زعمت صوابية القتال لردح من الزمن وبعد الهزيمة المرة تفاوتت نظرة هوليوود بنقدها المراوغ للحرب لكن عقيدتها لم تتغير، ظلت روح المكابرة مستمرة في طمس الحقائق بسعي مستميت نحو خلق نصر مزيف! وبالمقابل الفيتناميون المنتصرون سوقوا أفلاماً مزعجة للأمريكان.
هوليوود المدهشة المتفوقة في كل شيء، كم أنتجت من أفلام تستخف بالعقول، وتستهجن الآخرين وتستلب تفكير المشاهدين.
هوليوود العظيمة في إبهارها تقنياً وفنياً وعلمياً، سوقت للأكاذيب والاراجيف والأباطيل في غالبية إنتاجها، وعلى الرغم من قوة طرح الأفكار وجاذبية الإبهار وتمتعها بمساحة الإبداع التي لا مثيل لها في العالم، وبكل هذا الوهج المتجدد والجاذب والممتع والمسلي، إلا أنها ليست منشأة مستقلة تعمل بكل حريتها دون إملاء أو توجيه من أحد، هي بوق إعلامي موجه من وكالة الاستخبارات الأمريكية!! هي ذراعها الطولى ولسانها الناطق وعينها المبصرة، هي مسيرة وليست مخيرة، تعتبر سلاح دفاع متقدماً في وجه خصوم وأعداء أمريكا، هي أحد حصون أمنها القومي.
تقول تريشيا جنكيز، مؤلفة كتاب “دور السي آي أيه في هوليوود”: “إن تدخل الوكالة في صناعة الأفلام وصل لذروته خلال الحرب الباردة، حيث كان الهدف، صياغة السياسة الخارجية الأمريكية بشكل يستطيع كسب القلوب والعقول في الخارج، من خلال مركز أبحاث لمكافحة الشيوعية تابع للوكالة الاستخباراتية، مهمته التفاوض من أجل شراء حقوق نصوص الروايات وتحويلها إلى أفلام للترويج للسياسة الأمريكية، وتعزيز صورة الحياة الأمريكية في العالم، وقد ركزت الأفلام على مدى أخلاقية المنظمة السرية التي نادراً ما تخطئ بتقديم
المبررات لجميع عملياتها السرية غير الأخلاقية، وفي صورة عامة كبيرة بأنه لا أمن للولايات المتحدة من دون عمل جواسيس الوكالة”.
وبعد الحرب الباردة تغيرت البوصلة الدرامية، ازداد إنتاج أفلام الحرب على الإرهاب بشكل مطرد والمستهدف شريحة من البشر، فهم العدوانيون الذين يجب تصفيتهم، فأتت أفلام الحرب على ما يسمى الإرهاب الإسلامي، فشوهت صورة العرب والمسلمين في أبشع صور، وهذ الصورة النمطية والحط من شخصية العرب ليست وليدة أحداث معينة، إنما اشتغال منذ زمن بعيد وتكثف ضراوة وبشكل مغالى فيه بعد أحداث 11 سبتمبر.
ارتباط متين و تعاون وثيق يجمع بين CIA وهوليوود، حيث يوجد مكاتب تنسيق بينهما لوضع التصورات والآليات، والآفاق المستقبلية، ويزداد الحراك حينما تنوي الإدارة الأمريكية القدوم على شيء ما أو تحضر لفعل معين، أو تنوي القيام بحرب آتية، تدفع بأفلام مسبقاً لتهيئة الرأي العام، بجعل الدراما تسبق وقوع الحدث، تقول مجلة اربيان بزنس: “بعد مرور فترة طويلة على إنتاج الأفلام تظهر تقارير جديدة تؤكد الزواج القذر بين المخابرات الأمريكية وهوليوود، من خلال منح جوائز الأوسكار للأفلام التي تروج لعملاء السي آي إيه السريين، وهناك العديد من الكتب التي تؤكد بأن هوليوود في السرير مع وكالة المخبرات المركزية”؟!
جاء في جريدة الوقت مقالة حملت عنوان “الـ CIA.. هوليوود سياستنا”، مستعرضة الكثير من الأفلام التي جرى عليها الكثير من التعديلات بل تغيير السيناريوهات بالكامل من قبل الوكالة، ومؤكدة أن هوليوود ما هي إلا أداة طيعة في يد وكالة الاستخبارات الأمريكية تنفذ أيدولوجيتها، فعن طريق الفن تقوم بحرف الأذهان وتغيير الرأي العام وتهييج المشاعر، بالإضافة إلى التأثير على المعتقدات الشخصية للمشاهدين.
والأغرب في المقالة تحديد نسبة الإنتاج المتقاطع بين جهتين حكومتين: “الحقائق تقول بأن الأفلام التي تنتج في هوليوود تقريبا 75٪ منها تنتج تحت رعاية وطلب من الـ “سي آي إيه”، وتتفاوت النسبة أيضاً بما يقارب الـ 40٪ من تلك الأفلام تنتج بطلب من وزارة الدفاع الأمريكية رسمياً”.
وقريباً من هذا التوصيف مدون في كتاب صدر عام 2017 بعنوان “الأمن القومي السينمائي: الدليل الجديد على التدخل الحكومي في هوليوود”، من تأليف “توم سيكر وماتيو الفرود”، كتاب مثير في فصوله وسطوره وصدق محتواه، فقد استفاد الباحثان الأمريكيان من قانون تبادل المعلومات الذي مكنهما من الاطلاع بشكل وثيق على الآلاف من الوثائق الاستخباراتية والعسكرية، التي تدلل على وجود هيمنة حكومية كاملة على قطاع السينما، كما أبرزا أوراقاً سرية عن تدخلات في أدق التفاصيل لسيناريوهات الكثير من الأفلام وتغيير الصياغات اللغوية لجمل الحوار التي تأتي على لسان الممثلين.
وحسب توثيقهما فقد تدخلت الإدارة الأمريكية مباشرة في أكثر من 1800فيلم ومسلسل، وحين يقوم البنتاغون بدعم الفيلم السينمائي بشكل كامل يتطلب أولاً عرض النص عليه من أجل دراسته وتقييمه، وما إن تتم الموافقة عليه، يشترطون على المخرج أن يخضع لكل التعليمات المتفق عليها وذلك بكتابة تعهد خطي عند تنفيذ النسخة المعدلة على النص من قبل البنتاغون وفق ما يراه العسكريون، كما أن وكالة الاستخبارات هي الأخرى تمارس تدخلاً مماثلاً.
إذاً الأصوات التي تذهب لفيلم ما بحصده جوائز الأوسكار لا تأتي من فراغ، فترويج الفوز يقف وراءه العسكر ومن لف لفهم، وحتى لو لم يكن الفيلم حربياً أو سياسياً، يكفي أن يكون المخرج أو الممثل أو المنتج يحمل الولاء لهم ويدين بأيدلوجيتهم المستترة والمعلنة، هوليوود عقيدة عسكرية واستخباراتية بامتياز وإن تلبست بلبوسات الفن والإبداع.