تحفة رضوية

ورد عن الإمام الرضا (ع): “لا يجمع المال إلا بخمس خصال؛ ببخل شديد، وأمل طويل، وحرص غالب، وقطيعة الرحم، وإيثار الدنيا على الآخرة” (بصائر الدرجات ج ٦ ص ٣٠٨).

المال عصب الحياة ومن خلاله يمكن للإنسان أن يوفر مستلزمات الحياة الكريمة وتقديم السكن اللائق بأسرته، كما هو مورد من أهم موارد التقرب من الله تعالى فيبذل المرء شيئًا من ماله ليخفف وطأة العوز عن المحتاجين ويرسم بسمة الأمل على وجوههم، ومن هذه الجهة يمدح كل عمل وسعي لتحصيل المال الحلال ويلقى صاحبه كل آيات الثناء والتشجيع.

وأما ما يتحدث عنه مولانا الرضا (ع) فهو شيء آخر يختلف عما سبق ذكره، إنه يحدثنا عن مرض أخلاقي يصيب الإنسان من جهة غريزة مودعة فيه هي حب المال، فهذه الغريزة في سياقها الطبيعي المتوازن تعد أمرًا إيجابيًا ينبغي العمل من أجله، ولكنها إذا طغت وتحولت من وسيلة عيش كريم إلى غاية قصوى وهدف أوحد يكرس له الفرد كل وقته وجهده ويصبح همه الوحيد جمع المال والحرص على كنزه فإنها تغدو غدة سرطانية تهلك صاحبها، فوجود الإنسان في الحياة متعدد الوظائف والأدوار ومنها علاقته بربه وبأسرته والتي يتصل بها المال من وجه، وأما أن ينسلخ الإنسان من قيم كماله وعاطفته الوجدانية الجميلة ليصبح آلة حارسة على المال فهذا التحول السلبي مرفوض، لما يجلبه من أضرار ونتائج كارثية على صاحبه ويسلبه من كل ما هو جميل في شخصيته.

من تلك الأمراض الأخلاقية الناجمة عن الحب المفرط لجمع المال هو داء البخل – والعياذ بالله – إذ يتصور جامع المال أن كل نفقة وبذل من ماله سينقصه ويصيبه بخسارة كبرى، ويظن أن من الأدوار المهمة المسندة إليه قطع كل إنفاق إلا إذا كان ضروريًا جدًا، فيشح بماله في البداية عن كل محتاج ويصم أذنه عن استماع أنين المحتاجين، ليزداد الوضع سوءًا فينقص من البذل على أسرته وحتى على نفسه، وفي استماع وقراءة قصص البخلاء ما يقدم الموعظة للارتداع عن طريق الشح.

والداء الثاني هو الأمل الطويل، ولابد من التفرقة بين الطموح الإيجابي وطول الأمل السلبي، إذ أن الطموح تخطيط وازن للأهداف الدنيوية والأخروية وتنمية العلاقات المختلفة الخاصة بالفرد، بينما طول الأمل يعني اقتصار رؤية الفرد على تنامي ثروته وتقسيم مراحل عمره بناء على ذلك وكأنه مخلد، فليخطط المرء لزيادة مذخراته المالية للتوسعة على نفسه وعياله ولكن دون أن ينسى حق الله تعالى في ماله والبذل على المحتاجين متخلصًا من أغلال حب المال والحرص على كنزه.

والداء الثالث هو الحرص الغالب، وهو شدة طلب المال والاستزادة منه دون أن ينتهي لحد وسقف معين، ويعبر عنه تارة بالجشع والتصاق النفس به فلا يطيب حالها إلا بحصول مستمر عليه، ونسميه اليوم بالإنسان المادي الذي لا يعرف في تفكيره ولا في تخطيطه ومسعاه إلا البحث عن المال.

والداء الرابع هو قطيعة الأرحام، وذلك أن العلاقات بين الأرحام تقوم على التكاتف والتعاون والمساندة والاهتمام بأحوال الأقارب وتفقد شؤونهم، وهذا المحب للمال يخشى فتح موضوع المساعدة المالية، ولذا يحاول أن يتدارى ويعتذر بل ويخشى من اللقاء بهم، فيتخذ قرارًا يظن أنه مورد لحفظ أمواله وكنزها ألا وهو مقاطعتهم!

والداء الخامس المذكور عن الإمام الرضا (ع) هو إيثار الدنيا وحب حطامها الزائل، فالدنيا بالنسبة لمن تملك نياط قلبه الأموال هي دار القرار التي تستحق أن يعمل من أجل التملك والتمتع فيها، أما الرصيد الأخروي له فخاو لا ترى فيه أي عطاء وكرم يشفع له لنيل المغفرة والعفو الإلهي، ولا ينتبه مثل هذا المسكين المبتلى لخطأ خياره إلا بعد حلول المنية والرحيل خالي الوفاض، فيجد صحيفة أعماله خالية من باب واسع للمغفرة ألا وهو صنائع المعروف وأعمال الخير، كان يمكنه عملها في الدنيا بشيء بسيط من ماله ولا يؤثر أبدًا على حظوته بالحياة الكريمة.


error: المحتوي محمي