غرة أكتوبر يوم كبار السن.. وقّروا كباركم!

كتب أحد الأصدقاء مستذكراً بعض مظاهر احترام كبار السن في العقدين أو الثلاثة عقود الماضية، مستعرضاً بعض الممارسات السلوكية التي كانت سائدة وتمارس بشكل تلقائي غير متكلف في المواسم والمراسم واللقاءات الدينية والاجتماعية في زمن يغلب على أهله الأمية الثقافية وتغيب فيه المعرفة الدينية.

فيما مضى لم تكن قد تفشت ظاهرة الأيام الثقافية كيوم الأم والأب، وليس ثمة مناشط ثقافية ومهرجانات توعوية تذكر بهذه القيم الإنسانية، ومع ذلك فقد كانت الروح الاجتماعية آنذاك نابضة بالحيوية تستمد طاقتها الروحية وتستلهم قيمها الثقافية والمعرفية من الوسط الاجتماعي الموقِر لمن هو أكبر منه سناً، يمارس كل ذلك بعفوية بعيداً عن الضجيج والصخب الإعلامي، فإن من شبّ على شيء شاب عليه، كما يقول أبو العلاء المعري:

ويَنشَأُ  ناشِئُ  الفِتيانِ  مِنّا
عَلى  ما كانَ    عَوَّدَهُ    أَبوهُ
وَما دانَ الفَتى بِحِجىً وَلَكِن
يُعَلِّمُهُ      التَدَيُّنَ  أَقرَبوهُ  !

وبالرغم من أن لكل مرحلة عمرية احتياجاتها، وهي وإن اختلفت في بعض ملامحها وتفاصيلها إلا أنها تتفق في غاياتها وأهدافها، فإن ثمة احتياجات تلازم الإنسان منذ وعيه لذاته وتظل ملازمة لا تنفك عنه، منها الحاجة للقيمة أو التقدير، وهي حاجة ثابتة تزداد أهميتها والشعور بها كلما تقدم في العمر وبدت أعراض الشيخوخة.

فإذا ما وهن العظم منه واشتعل الرأس شيباً، وتلاشى دوره داخل الأسرة وخَفَتَ حضوره الاجتماعي فإنه أحوج ما يكون إليها من أي وقت مضى!

ولعله استجابة لهذه الحالة النفسية والشعورية يذكرنا القرآن الكريم بأهمية اعتماد سلوك عالي الرقة والتهذيب في التعامل مع هذه الشريحة كما يشير إليه قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.

ربما لا يوجد ما هو أهم وألزم لذي الشيبة من إشباع جوعه العاطفي للكلمة الرقيقة والنظرة الحانية، ولعل استعمال مفردة “الرحمة” في هذه الآية الشريفة هو ما يؤكد هذا الاستنتاج.

هناك قيمة ثقافية وحضارية بلا ريب للاحتفاء بيوم كبار السن “الأول من شهر أكتوبر” من كل عام، كونه يشكل محطة ثقافية تستثير فينا الشعور بحقوق هذه الفئة وأهمية التنبه لحاجاتهم والاحتفاء بما حققوه من منجزات.

لكن مما يؤسف له أن تمر هذه المناسبة بصمت إلا من بعض الأجواء الاحتفالية عديمة الفائدة، فينصب الاهتمام في الأعم الأغلب على الشكل وإهمال للمضمون، لذلك فإنه ينبغي أن يحظى كبار السن بمعاملة خاصة بالإفادة من المناسبة لتتحول إلى محطة نابضة بالحيوية وداعية لمراجعة مواقفنا العملية فيما نعيشه من ممارسات وسلوكيات مع كبارنا، على عدد من المستويات:

المستوى الأول: إعطاء هذه الفئة حقها من التكريم والاحترام والتنوية بمكانتهم وإنجازاتهم داخل أسرهم وفي محيطهم الاجتماعي بمختلف الوسائل والأساليب لتتحول فيما بعد إلى ثقافةٍ عامة وسلوكٍ متوارث يمارس بعفوية ودون تكلف.

المستوى الثاني:
إقرار منظومة متكاملة من  التشريعات والقوانين المستلهمة من القيم الدينية والسنن الكونية الإلهية لتوفر  بيئة ثقافية وحاضنة قانونية ملزمة تعزز ثقافة التكريم وتساندها.

المستوى الثالث: مراعاة احتياجات هذه الفئة في التصاميم الهندسية للمنشآت والأماكن العامة كالمساجد والحسينيات ومواقع الترفية بما يعزز حضورهم ومشاركاتهم الاجتماعية ويمكنهم من ارتيادها والاستفادة منها بيسر وسهولة دون أن تضطرهم إلى الاستعانة بالآخرين أو جعلهم يعزفون عن المشاركة.

إن من شأن هذه الإجراءات والفعاليات توفير بيئة تسهم بشكلٍ كبير وفعال في تحقيق مستوى متقدم من الإشباع العاطفي، وترسيخ قيم المحبة والتواصل بين مختلف الشرائح الاجتماعية وتوفير فرص الترابط بين الأجيال بما يخدم العملية التربوية ويعزز الروح الإيمانية وفقاً لما أكدت عليه مجموعة من النصوص الشريفة، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: “ليس منا من لم يوقّر كبيرنا ويرحم صغيرنا” وقوله: (عليه السلام): “من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم”.

وحتى لا تكون الحيوانات والطيور أكثر رقياً في أساليب تعاملها مع الكبار والمسنين منهم، وهي ممارسات جاءت بإلهام فطري وهداية تكوينية لتحافظ بها على وجودها ونسقها الاجتماعي كما يقول تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}.

إن أهمية هذه الهداية التكوينية التي يشير إليها قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} لا تنحصر في حياة وتجمعات هذه الكائنات ولكنها تستبطن رسائل مهمة موجهة للإنسان الواعي ليتأملها ويستفيد من تطبيقاتها العملية في تطوير طرق وأساليب حياته.

لقد استفاد الإنسان في بداياته من هداية الغراب له عندما دله على أفضل الأساليب ليعتمدها فيما بعد في إكرام الموتى، كما يرشد إليه قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي}.

ومن يتأمل سلوك  الغربان المتواجدة بكثرة في أحيائنا يلاحظ وجود منظومة متكاملة من قيم الترابط والتوقير للكبار والمسنين من قبل صغارها بشكل واضح وجلي يدعو للتأمل ويرشد إلى أن التراحم والاحترام يعززان فرص البقاء ويضمنان نمواً متوازناً في الحياة الاجتماعية.



error: المحتوي محمي