تداخل نصوصي بين الزراعي والسياب .. بين أنشودة المطر وأمنية المطر في البناء والرمز

لم تكن نظرية تداخل النصوص الغربية، لرولان بارت أو النصوصية أو التناص، بظاهرة جديدة في تاريخ النقد، فقد تحدث عنها النقاد العرب قديمًا وأوردوها بمختلف المصطلحات لإيجاد تفسير لتشابه النصوص من كافة أجناس الأدب بين أدباء مختلفين، فهناك من يسميها بالتوارد أو التضمين أو التأثر والمناقضات والمعارضات والاحتذاء وغيرها من المصطلحات، وهناك قبل ذلك من كان يسميها بالسرقات، هذا التداخل النصي عادة يأتي في المعنى واللفظ أحياناً باختلافات تقل أو تكثر، قال أبو هلال العسكري:(ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تناول المعاني ممن تقدمهم، والصب على قوالب من سبقهم). (1)

ورولان بارت يؤكد أن (كل نص تناص، والنصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة، وبأشكال ليست عصية على الفهم بطريقة أو أخرى، إذ نتعرف نصوص الثقافة السالفة والحالية، فكل نص ليس إلا نسيجًا جديدًا من استشهادات سابقة).(2)

فالنظرية تداخل النصوص تقول بأن كل نص أدبي هو نتاج لنص أدبي آخر يحمل صفاته وسماته قد يكون هذا التناص أو التداخل النصوصي بين شعر وشعر أو بين جنسين مختلفين بين نص نثري وآخر شعري، فالأديب ينشئ نصه عبر تراكمات من المعرفة اللغوية والجمالية والفكرية، فهو حين يقرأ يصبح لديه مخزون هائل في اللاوعي العقلي ومن ثم ينتج نصاً أدبياً له علاقات بنصوص أخرى كان قد قرأها وقد يحدث هذا التداخل في داخل تجربة الأديب نفسه أو بينه تجارب أدبية أخرى لأدباء مختلفين عنه، ويأتي هنا دور القارئ للكشف عن تلك العلاقات والتشابهات بين النصوص.

ومن هنا وعند قراءتي النص القصصي (أمنية المطر)(3) لطاهر الزارعي لا أستطيع إلا أن أستحضر في ذاكرتي النص الشعري (أنشودة المطر) للشاعر العراقي بدر شاكر السياب.

ومن المعروف أن هذه القصيدة تعد من عيون الشعر الحديث واستطاعت أن تتسم بالخلود والتي كتبها في عام 1992م، ويبدو أن طاهر الزارعي جاءت لغته موسومة بالحزن والسوداوية، فهو يبدأ نصه بأجواء ليلية مشوبة بالحزن كما بدأ السياب قصيدته. وإذا ما قاربنا النص القصصي (أمنية المطر (بالنص الشعري) أنشودة المطر) نجد أن النص القصصي يحمل الصفات الوراثية ذاتها التي حملها نص السياب ولا يخفى علينا الفارق الزمني بين طاهر والسياب، وقبل أن ألج في تحليل العلاقة بين النصين بقي أن أقول إن التداخل النصوصي بين النصوص يكون حينًا النص التالي متفوقا على النص السابق من حيث الجمال الأسلوبي وتوسيع الدلالات وتارة تكون العلاقة بين النصين علاقة احتذاء ومجاراة ذلك بحيث يبقى النص موازيًا للنص الأسبق، وحين نأتي لنص الدراسة نلاحظ أن طاهر الزارعي مشى مع قصيدة بدر السياب بخطوط متساوية في البناء وفي رمزيته للمطر إلا أن طاهر قد حدث معه اختلاف في كيفية معالجة تلك الرمزية والتي سنتعرف عليها بعد قليل. الجدير بالذكر أن أشير إلى الدراسة التي قام بها الدكتور عبدالله الغذامي في تداخل النصوص بين الشاعر غازي القصيبي والشاعر الأعشى، إذ تحرك نص القصيبي بحرية فوسع دلالات نص الأعشى بل وهشمها.(4)

وسنقف الآن على النصين ونجد أوجه التناص والاختلاف بينهما.

التداخل النصوصي بنائيًا
لقد عنون القاص طاهر الزارعي قصته (أمنية المطر) فنجد العنوان يحاكي تمامًا عنوان (أنشودة المطر) فكلا العنوانين من وجهة نظري ينطبقان على النصين، فالشاعر السياب في الوقت الذي كان ينشد بإمطاره كان يحلم بتحرير العراق، بينما بطل قصة الزارعي كان يتمنى بإمطاره أن يتحرر من الموروث الاجتماعي الذي تجلى في تلك العادات التي فرضت عليه الزواج من ابنة عمه وراح ينشد أمنيته مستظلًا بأشجار الحديقة عن المطر.

نجد في البداية بدأ بوصف الليل وتجمع الغيوم يقول:

(الليل يتوشح برداء أسود.. عتمة ملبدة بالسكون…إلخ.. غيمة تائهة تنادي أختها.. تتعانقان بلطف.. ورعد يحدث ضجة مدوية.. فيلد المطر)

والسياب يقول: عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

كلا النصين بدآ بالليل، إلا أن الليل عند السياب كان يقارب إلى الفجر في وقت السحر تحديدًا ولعله كان يأمل بانفراج وتحسن لأوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسياب هنا إنما كان يتغزل بالعراق.

بودي هنا أن أقف وقفة قصيرة لا بد منها مع البيت التالي لنلاحظ أيضاً التداخل الذي جرى بين السياب والشاعر الجاهلي امرئ القيس، يقول:

وتغرقان في ضباب من أسى شفيف
كالبحر سرح اليدين فوقه المساء
فالسياب يصف الغيوم تغطي البحر كاليدين وهذه الصورة تنقلنا إلى صورة الشاعر الجاهلي امرئ القيس وهي:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
نعود لقصيدة السياب يقول:
ونشوة وحشية تعانق المساء
هذه الصورة توحي بالرعد
قطرة فقطرة تذوب في المطر
ويقول طاهر بقوله: (لحظات قصيرة فليد المطر).
نجد نفس الوصف في نزول المطر في لحظاته البطيئة.
يقول السياب: وكركر الأطفال في عرائش الكروم
يقول طاهر: (تبتل شعيراتي.. مشيت خطوات لأصل إلى ظل أشجاري التي تنغمس في حديقة بيتي).

نلاحظ بعد هذا العرض أن النصين أخذا يسيران في خط واحد حتى هذا المقطع من قصيدة السياب بدأ من وصف الليل وتجمع الغيوم حتى نزوله والجميل أن طاهرًا كان ينهي بعض مقاطعه بقول: (مطر.. مطر) مرددًا إياه مرتين، وهذا ما نجده تمامًا عند السياب مكررًا إياه ثلاث مرات والتي اشتهرت عنده هذه بمعنى الخصوبة

والأمل ولعل سر تكرارها مرتين عند الزارعي راجع إلى قلة الخصوبة لديه ذلك لأنه لم يحقق أمنيته وهي زواجه من عشيقته.

حتى هذا المقطع من قصيدة السياب يتناص نص طاهر له بشكل جلي إلا أن هذا التناص في البناء قد توقف إلا أنه يتداخل معه في المعنى فكلا النصين يتحدثان عن الحرية والأمل بتغير الأوضاع، فالسياب موضوع قصيدته العراق والثورة ضد المحتل والحلم بالحرية، وأما بطل قصة طاهر الزارعي الثائر ضد الأعراف الاجتماعية الخانقة للحرية التي حرمته الزواج من امرأة يحبها.

وهكذا ختم السياب قصيدته بالأمل: (ويهطل المطر) هذه الجملة هي آخر كلمة في القصيدة.

وطاهر الزارعي قد توقف المطر عنده في نهاية النص منتظراً هو الآخر الأمل يقول: (والأمنية متعلقة بحبال السماء.. تحوم في أفق اللاحرية.. واللاتوافق.. حتى أتعبها السهر.. أوصدت جفونها.. وغطى عيونها نعاس طويل.. ومكثت متشبثة.. بين السماء والأرض.. تحلم بمرافقتي.. بتدفئة كل خواطري.. تحلم بالإفراج عنها.. وبقيت ساكنة تنتظر الأمل.. الأمل فقط).

رمزية المطر عند السياب/الزارعي
تكررت مفردة المطر عند الزارعي التي جاءت بشكل متكرر في جملة واحدة (مطر.. مطر) ثمان مرات، وبالطبع مفردة المطر وردة أكثر من مرة في جسد النص، وأقصد بذلك هو التكرار مفردة (المطر) بشكل ثنائي في مقاطع النص وهو تمامًا الذي نجده في قصيدة (أنشودة المطر) إلا أن السياب كان ينهي مقاطعه بشكل ثلاثي (مطر. مطر. مطر).

لقد تعرضت رمزية المطر في قصيدة  السياب إلى العديد من الدراسات كون الرمز خصائص شعر السياب نذكر منها ما خلصت إليه الأستاذة أحلام بكري(5) إذ تتراوح رمزية المطر ما بين التشاؤم على أوضاع العراق والتفاؤل، وبدأ السياب بوصف حبيبته المقصود منها العراق وراح يتغزل قائلًا:

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السَّحر
أو شُرفتانِ راح ينأى عنهما القمر

إلا أن هذا الغزل أفضى به إلى حالة من الحزن والتباكي على أوضاع العراق نجده يقول:

أتعلمين أيَّ حُزنٍ يبعث المطر؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
بلا انتهاء كالدَّم المراق، كالجياع
كالحب، كالأطفال، كالموتى هو المطر!

وظلت رمزية المطر التشاؤمية ترافق مقاطع النص في وصفه للعراق والإنسان العراقي الذي نهبت منه خيرات أرضه من حصاد وأحلام وعانى فيه من الجوع فراح يبحث عن مأوى إلى أن شرد خارج وطنه بسبب سوء الأوضاع في بلده
فهو يقول:
وكلَّ عام حين يعشب الثرى نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعِراق ليس فيه جوعْ.
مطرْ
مطر
مطر
وقال:
وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجَرادْ
وتطحن الشّوان والحجرْ
رحىً تدور في الحقول.. حولها بشرْ
مطرْ..
مطرْ..
مطرْ..
ففي كل مقطع ينهي (مطر.. مطر.. مطر)
إلا أنه في أحد مقاطع القصيدة نجد تلك الرمزية تتحول إلى تفاؤل حيث يأمل بمستقبل مشرق للعراق يقول:
في كل قطرةٍ من المطرْ
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ.
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراةْ
وكلّ قطرةٍ تُراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسم جديدْ
أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياةْ!
مطرْ…
مطرْ…
مطرْ…
سيُعشبُ العراق بالمطرْ…
ويكرر نفس الكلمات في نهاية القصيدة تأكيدًا على أن المستقبل يشرق من رحم معاناة الإنسان العراقي الذي هدرت منه الكرامة وسرقت منه خيراته وينهي المقطع بقوله:
(سيهطل المطر) وهذه دلالة على التفاؤل.
في كلّ قطرةٍ من المطرْ
حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ.
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديدْ
أو حُلمةٌ تورَّدت على فمِ الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة.
ويهطل المطرْ…

وحين نأتي لطاهر الزارعي فرمزية (المطر) عنده تتسم بالحزن العميق والقسوة والضاغط على نفسه وهنا يتحد معه في هذه بتحويل قيمة المطر إلى رمزية تشاؤمية، فبطل القصة الذي سيزوجه أبوه من ابنة عمه رغمًا عنه بسبب العادات والتقاليد المجتمعية حرمته من الزواج من حبيبته وتبدأ القصة بوصف تلك المشاعر بالحزن والرفض في آن معاً لتلك القيود.

وصف بطل القصة لوجه أبيه الذي كان يطل من النافذة وهو يقف خارج البيت، يوحي بأن البطل السارد يريد بذلك عزل نفسه عن تلك القيود المجتمعية والأعراف الذي وجد نفسه فيها، فالبيت مثّل ذلك المجتمع بما فيه من أعراف وتقاليد والأب الفاعل لها، وراح يصف وجه أبيه الذي رأى فيه المحطم لأمنياته والهادم لأحلامه بل ذلك السيف الحاد إلى أن يقول: (وجه يمتطي تحدياً لي.. لا.. بل تحديًا للأمل.. للحب.. للحياة برمتها!! لا أريد أبًا هكذا) وهنا رفض الأب إنما هو رفض لتلك العادات ورفض لذلك الزواج.

فنجده يقول: (.. لكنني لا أريدها أن تكون فتاة أحلامي.. اختلط لونها مع لون المطر.. وامتزجت رائحتها النتنة مع رائحته.. تتبعثر على خريطة وجهي.. كخربشة فنان على لوحة متقاعسة.. مطر.. مطر) هنا نجد الرمزية التشاؤمية.
وفي المقابل يذكر حبيبته التي تزيل ع عنه تلك المشاعر السوداوية والكاتمة تحميه من ذلك المطر حيث يقول: (وفتاة أحلامي.. طيف يشع نورها في قلبي.. أجدها في حديقتي.. تسامرني.. تبعدني عن صخب المطر.. وتحتضنني.. فأشعر بدفء الحياة.. رغم برودة المطر).

ويستمر في وصف ذلك المطر الذي هطل بلون شاحب في القصة وبقي ضاغطًا على صدر البطل إلا أنه حين يغيب الأب عن النص الذي كان حاضرًا عبر تلك النافذة التي يطل منها حيث مثّلا هنا الأب والمطر ثنائية للسوداوية والألم الذي يعيشه البطل وما أن غاب بدأت هنا حالة من الانفراج حيث يقول: (ابتعد وجه أبي من نافذة بيتنا.. استراحت أعصابي.. تفتقت ملامح تلك النافذة بابتسامة يانعة.. أعادت لها نشوتها.. وأخذت تستمتع بالمطر.. وتنشد.. مطر.. مطر.. تنفرج دهاليز الغيوم شيئاً فشيئاً.. تتبعثر في السماء.. تتسارع.. يرحل بعضها بعيدًا.. وبعضها ينكمش في عقرها.. توقف المطر).

إذًا نحن أمام تحول لرمزية المطر، تحول كبير انقلب إلى حالة من السعادة والانشراح، إلا أنه المطر هنا توقف، فالمطر الذي جاء رديفًا للأب فبغيابه يتوقف المطر.

وتأتي هنا المعاكسة بين النصين في استخدام الرمز، فالسياب يستمد الأمل عبر مفردة هطول المطر، إلا أن المطر الذي كان عند الزارعي يستمد أمله بتوقف المطر الذي جاء متمثلًا بذلك الأب وحصوله على حالة الانشراح وظهور الأمل من جديد.

السياب يختم قصيدته كما أسلفنا (ويهطل المطر) بينما طاهر يختتم القصة (وبقيت ساكنة تنتظر الأمل.. الأمل فقط) فكلاهما يحلم بالحرية وبتحسن الأوضاع، فالسياب يحلم بتحرير العراق والآخر يحلم بالتحرر من تلك العادات والتقاليد والزواج من حبيبته.

هكذا هي نصوصنا إنما تتمخض عن نصوص أسلافها وهي مولودة من رحمها كما ستتفرع عنها نصوص أخرى، والنصوص قد تكون سببًا لإحياء نص كاد أن يختفي وقد يتفوق نص في دلالاته على النص الأب حتى لو كان لشعراء يعتبرون رموزًا في تاريخ الشعر العربي كالمتنبي وامرئ القيس بل وقد يساويه.

وبهذا أرجو أن أكون قد وفقت في عرض هذا التداخل النصوصي.


1 – نقلاً عن بوطاهر بوسدر، مقال التناص عربيًا وغربيًا، موقع الألوكة اللغوية والأدبية.
2 – نفسه
3 – موقع القصة العربية، جبير المليحان
4 – ثقافة الأسئلة، الدكتور عبدالله الغذامي، نادي جدة الأدبي.
5 – الرمز في قصيدة المطر، أحلام بكري، موقع سطور


error: المحتوي محمي