نصيحة.. في نهاية الرحلة

اعتاد (عبد العزيز) التنقل بين مدينة القطيف، ومدينة الرياض حيث مقر عمله.
فتارة يذهب بالطائرة. وتارة أخرى بسيارته الخاصة. وبعض الأحيان بالقطار.
وفي أحد أيام فصل الصيف ذهب للرياض بسيارته الخاصة (فعادة إذا ذهب بالسيارة يرجع بها أيضًا). ومكث بها لنهاية الأسبوع. حيث اعتاد الرجوع لمنطقته في يوم الخميس بعد انتهاء العمل.
شعر (عبد العزيز) بتعب في صباح يوم الخميس وهو ذاهب إلى مقر عمله (لأنه سهر الليل لمشاهدة كرة القدم مع أصدقائه). الطقس جاف وحار جدًا تكاد تلامس الحرارة الأربعين في الصباح الباكر.
استقل سيارته وربط حزام الأمان وتوجه إلى مقر عمله. الشوارع مزدحمة بالسيارات، فبالرغم من أن الطريق واسع وكبير إلا أن عدد السيارات الكبير يعيق حركة المرور لتجعلها تسير ببطء شديد. بالإضافة إلى سيارات الإسعاف التي لا يخلو يومًا منها في الطريق بصوتها القوي الذي ينبه السائقين لإفساح الطريق لها.

(عبد العزيز) اعتاد هذا الأمر ولذلك دائمًا ما يخرج مبكرًا تحسبًا لأي تأخير في الطريق ليصل للعمل في الوقت المناسب. يدير الراديو للاستماع إلى آخر الأخبار. يسلك الطريق الوسط لكي يتحاشى السيارات المسرعة في المسار السريع ويتحاشى المسار الأيمن لتلافي دخول أو خروج السيارات من الشوارع الفرعية. ولكن الكثير من السائقين لا يحترمون من يلتزم بهذه الضوابط فتجد الكثير يريد التجاوز من اليمين أو اليسار وكأنهم في مضمار سباق.
وبعد هذا السباق في الطريق يصل (عبد العزيز) لمقر عمله بسلام.

يمضي الوقت سريعًا. حان وقت الصلاة وتناول وجبة الغذاء. وبعد أخذ الراحة يكمل عمله ويصاب (عبد العزيز) بصداع فيأخذ مسكنًا للألم. وبعد الانتهاء من العمل يخرج ويتفاجأ من سوء الطقس. الحرارة مرتفعة والرياح شديدة محملة بالأتربة والغبار كثيف يحجب الرؤية. يضع طرف الشماغ على وجهه. يسرع للوصول لسيارته. يذهب إلى شقته لترتيب أغراضه استعدادًا للرجوع إلى (القطيف). في هذه الأثناء قرر (عبد العزيز) ألا يرجع بسيارته في ظل هذه الأجواء غير المستقرة بالإضافة للتعب الذي يشعر به. ويذهب بالقطار حتى يتمكن من أخذ قسط من الراحة أثناء العودة حيث تستغرق الرحلة أربع ساعات.
أوقف سيارته أمام السكن. وأخذ سيارة أجره وتوجه إلى محطة القطار. بعد حجز التذكرة بواسطة التطبيق على جواله. اتصل بأهله ليخبرهم أنه سوف يتأخر بسبب الظروف الجوية وسيستقل القطار.

وصل المحطة. يصعد القطار. يستقر على مقعده بعد وضع حقيبته. ينظر إلى الساعة باقٍ ثلاثون دقيقة ليتحرك القطار. ما زال الركاب يصعدون القطار. ويحدث نفسه قائلًا أتمنى ألا يجلس بجانبي أحد ليتسع لي المكان.
وأثناء انشغاله بجواله. فإذا بصوت رجل: السلام عليكم… لو سمحت أريد الدخول لمقعدي (القريب من النافذة) (بلهجة مصرية). ينظر (عبد العزيز) للرجل مبتسمًا له: وعليكم السلام تفضل. تفضل. يقف (عبد العزيز) حتى يدخل الرجل. يجلس في مقعده.
إنها الساعة السابعة والنصف ليلًا. وهو الوقت المقرر أن يتحرك فيه القطار.
بالفعل تغلق الأبواب ويبدأ القطار بالتحرك.
ما زال (عبد العزيز) يتصفح جواله ويتنقل من تطبيق (الواتس أب) إلى تطبيق آخر. نصف ساعة مضت منذ بداية الرحلة. يتثاءب مرة تلو الأخرى من شدة التعب. يغلق الهاتف ويضعه في الحقيبة.
ويخرج وسادة وغطاء ليبدأ بأخذ قسط من الراحة!

يلتفت له الرجل الذي بجانبه ويقول: يبدو عليك التعب. أين تتجه؟
(عبد العزيز) يرفع رأسه وينظر له ويقول: هذا صحيح فأنا متعب قليلًا. ومتجه إلى الدمام.
الرجل يحاول تقليد اللهجة السعودية ويقول: كان الله في عونك. وأنا أيضًا متجه إلى نفس الوجهة. أنا اسمي (محمد) وأنت ما اسمك؟
(عبد العزيز) يعيد النظر له (وفي خاطره يقول: أتمنى أن تسكت لأرتاح) ويرد عليه: والنعم فيك. أنا اسمي (عبد العزيز) تشرفنا. يعيد رأسه للخلف ويغطيه بالغطاء. (يعني ليس له الرغبة في مواصلة الحديث).

(محمد) من أين أنت؟
(عبد العزيز): من القطيف. (يجيبه من تحت الغطاء).
(محمد): ما شاء الله والنعم بأهل القطيف. فأنا عملت هناك لسنوات.
(عبد العزيز) يخرج رأسه من تحت الغطاء ويقول: أنت مصري وتقلد اللهجة السعودية. كم سنة وأنت هنا؟ وأين تسكن؟
(محمد): صحيح. (نحو خمس عشرة سنة) وأسكن في الدمام وتنقلت بين القطيف والخبر وحاليًا أعمل بالرياض.
ويمضي الوقت وهما يتبادلان الحديث عن نفسيهما. ومازال (عبد العزيز) يحاول إنهاء الحديث ولكن دون فائدة!

وصل القطار محطة الأحساء وتوقف لنزول الركاب وصعود غيرهم.
انتهز (عبد العزيز) هذه الفرصة وقال: (يا محمد) اعذرني سأذهب لدورة المياه.
يتوجه إلى دورة المياه بالقطار. ويتباطأ في الرجوع. حتى تحرك القطار مرة أخرى.
لا بد أن يرجع فهو يشعر بالتعب. ومضت ثلاث ساعات ولم يذق طعم الراحة والنوم من ثرثرة (محمد) الذي يتحدث عن كل شيء. ولا يمل من الحديث عن نفسه أنا عملت كذا. وأنا ذهبت إلى.. وأنا.. وأنا.. و(عبد العزيز) فقط يردد بعض الكلمات للمجاملة منها (ما شاء الله. صحيح. بالفعل.).
يعود لمقعده. يجد (محمد) يتحدث مع أحد بالجوال. (عبد العزيز) في قرارة نفسه يقول: يا رب هذه المكالمة تطول حتى نصل محطة الدمام.
يجلس على مقعده يسند رأسه على الكرسي.
وإذا بالجار العزيز (محمد) يقول: عندما أصل للمحطة سأتصل عليك. مع السلامة.
(عبد العزيز) يحك لحيته. ويضع يده على فمه ليتثاءب بقوة. حتى إن عينه دمعت من شدة النعاس.
يلتفت (محمد) ويقول: تأخرت. سلامات. لقد قلقت عليك.
(عبد العزيز): لا.. فقد كانت دورة المياه مزدحمة. فانتظرت دوري. شكرًا لك على سؤالك.
(محمد): عفوًا. كنت انتظرك لأكمل لك ما جرى لي في إحدى سفراتي بالخارج لعقد اتفاق لتصدير بعض المنتجات لصالح شركتنا.
(عبد العزيز) يرفع يداه للأعلى ويتمدد متظاهرًا بالتعب. ويأخذ نفسًا عميقًا. ويخرجه بزفرات مرتفعة. لعله يشعر بأنه لا يريد مواصلة الحديث معه.
لكن (محمد) يتجاهل كل الحركات التعبيرية الواضحة على (عبد العزيز) ويكمل الحديث.
(عبد العزيز) يتحدث مع نفسه ويقول: ما هذه المشكلة التي أنا بها؟ لم أتوقع أن أجد مثل هذا الرجل الثرثار. لا يمل ولا يتعب من الكلام المتواصل. هل أطلب منه التوقف؟ يمكن يزعل؟ حتى لو زعل أهم شيء راحتي. لو كنت أدري أن هذا سيحصل لي لذهبت بسيارتي. فقد أصبت بالصداع من هذا الحديث الطويل. (ومحمد يواصل الكلام).

يمضي الوقت. يصل القطار إلى محطة بقيق. يتوقف. وينزل الركاب ويصعد آخرون.
هنا فكر عبد العزيز بحل ولكنه تراجع عنه سريعًا. وهو أن ينزل في هذه المحطة ويكمل رحلته للقطيف بسيارة أجرة.
وأخيرًا وبعد أن نفد صبره قرر أن يوقفه عن هذه الثرثرة.
(عبد العزيز) ينظر إلى (محمد) بنظرة حادة. ويضع يده على كتفه ويقول له بصوت شبه عالٍ: يا رجل ألا تمل من الثرثرة؟ ألا تشعر بالخجل وأنا أتجاهلك في الحديث؟
قلت لك منذ بداية الرحلة أنا متعب. أنا متعب. وأريد الراحة. ما هذه الحالة؟
طبعًا. بقية الركاب وبهدوء كانوا يراقبون الوضع. وينظرون لردة فعل (عبد العزيز).
(محمد) يحاول تهدئة الوضع وهو يلتفت للركاب ويلتفت إلى (عبد العزيز) وهو يقول: (متأسف جدًا). ولكن أحببت أن أشاركك الحديث.
(عبد العزيز) يتنهد. ويغمض عينيه قليلًا واضعًا رأسه على الكرسي. يهدأ من انفعاله (وهذا طبيعي أن يغضب لأن بعض التصرفات لا ينفع معها إلا الصراخ).
لحظات قليلة. وإذا بسرعة القطار تتباطأ شيئًا فشيئًا معلنًا وصوله إلى محطة الدمام.
(عبد العزيز) يرفع رأسه وينظر إلى (محمد) وهو يقول: انظر (يا محمد) أنا آسف لأني رفعت صوتي عليك. ولكن يجب أن تعذرني. لأني متعب، وأردت أخذ قسط من الراحة ولكنك حرمتني منها. وهذه الرحلة قد انتهت ووصلنا بحمد لله بالسلامة. فنصيحتي لك ألا تتكلم مع أي شخص لا تعرفه بهذه الطريقة. فكثرة الكلام (الثرثرة) في غير محله يسبب لك المتاعب والمشاكل. وتكون غير محبوب للناس. والثرثرة لها مشاكل كثيرة.
وقد أعطيتك إشارات عدة مرات بعدم رغبتي بالحديث معك بكل احترام لكي لا أجرح مشاعرك. فتارة أتثاءب. ومرة أعبث بجوالي. وأخرى لا أتجاوب معك. ولا أنظر إليك وأنت تتحدث ولا أكترث لك. ولا أبادلك الحديث. كل هذا ولم تستسلم لإيقاف هذه الثرثرة. هذا مرض خطير (يا محمد) أرجو أن تعالجه بأسرع وقت.
فتحول ( عبد العزيز ) في تلك اللحظات الأخيرة من الرحلة من مستمع يتجاهل (محمد) الذي أزعجته ثرثرته الكثيرة طيلة الرحلة إلى ناصح ينصحه ويعطيه بعض الإرشادات التي تساعده في التخلص من هذه المشكلة. و(محمد) يلزم الصمت وينظر إلى ملامح وتعبيرات (عبد العزيز) الذي بدت عليه آثار الغضب حيث شعر أن كلامه عين الصواب وكأنه مع أخصائي نفسي أو اجتماعي يعالج مشكلة مع شخص ما.

توقف القطار. بدأ الركاب بالتحرك نحو بوابة القطار.(عبد العزيز) يهدأ بعد أن أخرج ما في صدره من كلام. ويضع يده على كتف ( محمد) مرة أخرى وهو يقول: أنا آسف إن كنت جرحتك أو رفعت صوتي عليك. ولكن هذه نصيحتي لك.
(محمد) بصوت منخفض وبابتسامة خجلة وهو يقول: لا عليك. أنا يجب أن أقول لك آسف. أنت على حق فيما قلت. ونصيحتك في محلها.
كل واحد منهما أخذ حقيبته وتوجها إلى البوابة للخروج. وصلا للبوابة الخارجية لمحطة القطار. ينظر كل منهما للآخر. يرفع (عبد العزيز) يده ويسلم على (محمد) ويودعه ويقول: تصبح على خير. مع السلامة. (محمد) يبتسم ويودعه.

لو كنت عزيزي القارئ مكان (عبد العزيز) وقابلت مثل شخصية (محمد) فما هو تصرفك معه؟


error: المحتوي محمي