وجوه لا تنسى.. الحاج عبد الغني أخضر «سائق العلماء»  

أحتاج الآن لشخص يعوضني عن الحرمان لفقد الذاكرة، أحتاج إلى إنسان يؤنس مخيلتي ويتصدق علي لأسرد للتاريخ الفقير أحداث أناس كانوا هنا، من أجل شخصيات تؤنسك حينما تجالسها وتنبئ محدثيها بالحكايات وتسرد قصص العلماء الذين عاصروها، حتمًا سيكون عندهم كم هائل من تراث الأحداث بمختلف أشكالها وأنماطها الحياتية، فمن لا يطيق سماع قصص جرت عنهم؟! فكيف بمن جالسهم وتسامر معهم وخدمهم لفترة طويلة.

كم نحتاج لتدوين حدث عن عالم؟! وهل كل شيء يروى نأخذ منه عبرًا وفكرًا؟! سأروى لكم لمحة بسيطة عن سائق (سواق العلماء) الحاج عبد الغني بن عبد العلي بن سلمان أخضر، هو واحد من أولئك الذين أمضوا جل عمرهم معهم خادمًا وقائمًا لوجه لله فيهم.

ولد سنة 1365هـ، في حي المدارس، الحي القديم الذي يقع شمال سوق مياس في وسط القطيف، ويشتهر بكثرة العلماء والمساجد والحسينيات وكذلك استديوهات التصوير الفوتوغرافي، وأيضًا مجسم السفينة المطل على قلعة القطيف، بهذا الحي الجميل تربى في حضن أخته الخطيبة الحسينية نعيمة أخضر “أم عبد الرسول” بعد أن توفيت والدته وكان يبلغ من العمر تسع سنوات، رعته رعاية وعناية فائقة حيث عكست عليه بيئتها التي تعلم وقرأ فيها بحيث تتلو طوال فترة حياتها القرآن وهي خادمة وناعية لأهل البيت عليهم السلام فقد كسب منها حبه وشغفه للقرآن الكريم.

في عمر الثالثة عشرة توفي والده فما كان منه إلا أن دخل مضمار قساوة الحياة وكافح بعد اليتم، زاول مهنة الخبازة مع أخيه سلمان ورضي أخضر قرابة الثلاث عشرة سنة، وخلال عمله فيها تزوج من الحاجة بدرية إدريس القصاب (بائع الهريس المشهور) ويعتبر من أقدم المطاعم بيعًا للهريس بالقطيف وكان عمره حين زواجه سبعة عشر عامًا.

ولتعسر المعيشة حينئذ التحق بشركة الزيت العربية (أرامكو) ولم تكن الشركة في بدايتها سخية بالراتب فقرر أن يجوب رزقه براتب أفضل حتى التحق بمندوبية التعليم (الرئاسة العامة للتعليم) لمدة ثلاثين سنة تقريبًا مع ممارسة العمل كسائق سيارة أجرة وتوصيل زوار العراق بسيارته نوع (جمس سوبربان).

كان رحمه الله كريم الأخلاق سخي اليد لا يرد أحدًا ترك بصمة طيبة لجميع من حوله، امتاز حديثة وذكرياته مع العلماء الذين عاصرهم وتشاهده تارة يحكي وتارة أخرى يبكي لأيام خلت بماضيها الجميل وأن يكن فيه أفراح إلا أن فقد الأحبة أحزان، فأحفاده (الحافظ الله خمسون) يأنسون به حينما يجلسهم أمامه ويرجع لهم شريط الذكريات التي قضاها مع رحلة الترح والمرح.

قاسى الأمرين كافح ليقي عائلته ضيق المعيشة ولكن ما لبث أن سكن مع أخيه “رضي” ذاك الرجل المؤمن الذي تكفل به وبالذات في أول أيام زواجه، ضاق به المكان فاستأجر منزلًا في حي الكويكب ثم تدرج إلى ثلاثة بيوتات مستأجرة في الدخل المحدود وأخيرًا استقر به الحال وتملك بيتًا في الحي نفسه (ج) عام 1404هـ، رغم مصاعب الحياة إلا أنه لم يقصر على أبنائه وبناته من تربية وحياة كريمة موفرًا لهم حياة مليئة بالهناء والسعادة.

التزم خادمًا وسائقًا للعلامة الشيخ فرج بن حسن العمران القطيفي (1903 – 1978) وكان سائقه الخاص لحين وفاته رحمهما الله، ولفترة وجيزة خدم العلامة الشيخ حسين بن فرج العمران (1359هـ) حفظه الله، كان من المقربين لعائلة العلامة العمران، ويمتاز المرحوم بأنه يحب خدمة ومجالسة العلماء ودائم الخدمة لهم، ويفرح كثيرًا عندما يقدم عملًا لهؤلاء العظماء وبالذات العلامة العمران كان لا يرد للشيخ طلبًا أبدًا، متعلقًا به كالأب.

وقد قضى مع الشيخ إبراهيم الغراش (1361هـ – 1436هـ) وهذا الشيخ الجليل كفيف البصر أحد تلامذة العلامة العمران، كان له العين واليد، وغير توصيله بالسيارة يقف له احترامًا وتقديرًا ويأخذ بيده داخل المساجد والحسينيات والمجالس العامة.

والحاج على هذه الحاجة من المسؤولية يقضي يومه في قراءة القرآن ويقرأ الزيارة الجامعة، عاش عاشقًا لأهل البيت عليهم السلام، دائم السفر لزيارتهم، وفي يوم الخميس على مدار السنة يكون هذا اليوم بمثابة العيد لأفراد العائلة وبالخصوص الأحفاد حيث يوزع عليهم النقود والهدايا، وحتى “العاملات” يفرحن بهذه المناسبة الأسبوعية لأنه يهديهن بطاقات شحن، يحب أن يطبخ لأسرته بيديه مثل (الباچا والمشويات) ولكن بسبب تضرر عينه من دخان الشوي منعه عن ذلك في الفترة الأخيرة، هكذا كان عطاءة مستمرًا يدخل السعادة على القريب والبعيد على الأهل والجيران، وشفوق على عمال الشوارع وعطوف على الفقراء.

في أواخر أيامه اشتد عليه المرض وحرارته ارتفعت، أعطى سائقه مبلغًا من المال وطلب من ذويه أن يهدى لدكتوره علبة (تمر)، مازال طاقم المشفى الذي يشرف عليه يتذكره بطيبة قلبه وبشاشة وجهه، كان كريمًا معهم دائمًا يحمل للدكتور والممرضات الشوكولاتة والهدايا في زياراته، جميعهم حزنوا عليه بشدة عند وفاته، والجدير بالذكر أن بعضهم أرسل واتصل للترحم والمواساة.

كان متمسكًا بالصلاة ومحافظًا عليها وخاصة صلاة الفجر، وقبل توقف قلبه طلب من الممرضة أن يغتسل ليصلي، وبعدها فارق الحياة في مستشفى جونز هوبكنز (أرامكو الظهران) في 21/12/1441هـ، فرحمك الله يا أبا حسين رحمة الأبرار وأسكنك الله فسيح جنته لروحك الفاتحة ولأرواح المؤمنين والمؤمنات.


error: المحتوي محمي