كالطيف الشارد كان حضورها، يراها كالنسمة اللطيفة لكنها تمر سريعاً مرور الكرام، كوميض نور يضيء عتمته ببريق لحظي ويتلاشى.
كم أسعده ذلك الحضور البهي رغم ندرته، اعتاد أن يراها بقلبه لكنه يشعر أن عينيه تحتضن عينيها الآسرة التي تتحدث بفصاحة تفوق فصاحة لسانها، هي مزيج من مشاعر أمومة مفعمة بالحنان وصداقة حقيقية وإحساس جميل بالقرب يجعله يشعر أنها كانت معه منذ زمن طويل، يشعر أنه يعرفها تمام المعرفة كفرد من أفراد عائلته وممن يراهم كل يوم بيدّ أنه لا يراها إلا بقلبه، لذلك كان الحنين يخنقه حين يغيب طيفها، حين يفتقد كلماتها، حين تغيب تلك الصور التي يراها في يومياتها حينها يستغيث الاشتياق ويستبد بقلبه فتتحرك تلك المشاعر التي تحمله لعالم أفلاطوني يهيم به.
لا يمكنه أن يتخيل حياته تخلو من تلك النسمة الجميلة، فلابد أن يعيش تلك اللهفة التي يراها بعينيها والحنين في دفء كلماتها، حين يكتب عنها يراها تلك الشمس البعيدة لكنها مشرقة ترسل نورها للكون دون أن تعتني بمن يقذفها أحياناً بحجارة أفكاره الجاهلة ويلعن حرارتها في صيف لا يرحم لأنه يغض طرفه عن كل عطاء الشمس برغم بعدها، يكفي أنها الحياة لكل يوم.
اشتكى لقلبه فراقها فأشار عليه بترياق يعلم أن فيه خير بلسم لجراحه، فلا شيء يفوق سحر حديثها ليه فقرر أن يخلع عباءة صمته ويتحرر من أسر خجله ويفصح عن بصيص نور من روحه المنهكة.
قال لها يوماً:
اشتقت إليكِ شوقاً أغرقني في بحر اللهفة.
أجابته:
أتمنى ألا تغرق لأنني أخشى ألا أراك تغرق في بحر يتلاطم بأمواج عاتية ليس لها قرار، بحر ليس كالبحر الذي تصطاد فيه، بحر بقدر ما هو جميل أخاذ إلا أنه يغرقك في لججه المظلمة وإن كنت تجيد الإبحار إلا أنه ينسيك نفسك ويجردك من جبروت الأنا لتصبح له.
وكأنه أراد أن يمسح على قلبها لتطمئن فأجابها:
البحر الذي تخشين علي أن أغرق فيه هو بحر يضفي حناناً ويبعث الطمأنينة في قلبي، هو بحر يتلاطم عطاءً وحباً، هو بحر كلما اقتربت منه يرسل إليكِ دفئاً، هو بحر كلما نظرت في عينيه يسحرك ويجذبك إليه.
كان من أشد ما يجمعها معه عشق البحر، فهما من أكثر الناس عشقاً للبحر، إلا أنها لا تصل لأكثر من شاطئ رملي تطبع آثار قدميها عليه وفي كثير من الأحيان لا تسعها التقاليد والأعراف سوى أن تتأمل فيه من علو متجنبة الاقتراب منه تبعاً للأنظمة والتعليمات، فهي امرأة في مجتمع محافظ، امرأة ليس معها سوى ظل رجل باهت أضعف لديها الرغبة في الحياة فأصبحت تنتظر الموت لتحيا به الحياة الأبدية.
أحياناً تتمنى الغرق في أعماقه لتكتشف ذلك العالم الزاخر بالأسرار، وحينها تشعر بأنها كائن لا يكاد يْرى، ذرة متناهية في الصغر أمام سعة ذلك البحر وعظمته، كريشة صغيرة تتهاوى وتذوب.
كانت كلماتها تخترق شغاف قلبه الشفيف وتعانق روحه الجميلة، يعشق كلماتها ويراها بلسماً لجراحه التي لم يكشف سترها لأحد لأنه كان يذيبها في البحر ويخفي كل ما يعاني منه، لكنها تشعر بحدسها وقدرتها على مشاركة من تكن لهم مشاعر خاصة وتوليهم عناية خاصة.
يشعر أن كلماتها تتحرك كنسيم بارد يخرق شريان القلب، هي شعوري أنا والذي أنتظره، شعور التي ينثر أريجه وعبيره عليها.