العوامية.. أرض العلماء والأدباء والشعراء…

لم تكن العوامية تاريخيًا بلدة تعيش على هامش التاريخ، إذ عززت مكانتها بتواجد العلماء فيها، ولعل موقعها الجغرافي ووجود الخيرات الكثيرة التي صنعتها البيئة كان أحد أهم العوامل في تحقق هذه الحقيقة، ومنذ أكثر من ١٠٠ عام والتاريخ يسجل تواجد العلماء فيها، مما صنع تميزًا في المجتمع المحلي ليكون أكثر تطورًا ونماء.

ومع تمدد المعرفة من المعارف التقليدية بين رجال الدين إلى العلوم الحديثة وجد أبناء العوامية مكانهم في الصدارة من أطباء ومهندسين، وأدباء وشعراء…، إلخ، وفي الجانب الأدبي كان هناك محمد حسن النمر الذي عرف أديبًا وقاصًا مهمًا على النطاق العربي، إذ مكث في العراق حتى توفي، واليوم تمر علينا في هذه الأيام ذكرى مرور ١٠٠ عام على رحيل أحد أبرز الأسماء اللامعة في تاريخها، عالم فقيه أصولي، محدث فيلسوف فلكي، لغوي شاعر.

له مشاركة واسعة في علوم عصره، وكتب في شتى صنوف المعارف، المعروفة في زمنه، إنه الإمام الشيخ جعفر أبو المكارم الستري البحراني العوامي القطيفي الذي كتب في الفقه والأصول والفقه الاستدلالي وعلم الكلام والفلك، ومما تميز به اهتمامه بجمع مراسلاته مع علماء عصره، ومنهم العلامة كاشف الغطاء، والد الشيخ محمد حسين، وفي إحدى رسائله كان يبلغ الشيخ جعفر سلامه وسلام أخيه الشيخ أحمد كاشف الغطاء الفقيه الكبير.

سجل التاريخ أنه أول من اتجه إلى الطباعة والنشر من علماء المنطقة، إذ نشر كتابين هما سيرة السيدة فاطمة، وسيرة الإمام الرضا في عام ١٣١٠ في الهند طباعة حجرية، ونشر رسالة في مسألة أصولية في بغداد طباعة حديثة، ممتازة وورق صقيل في عام ١٣٣١، ومن المهم أن نشير إلى أن حياة الشيخ ونشأته الأساسية في العوامية، بيد أن تحصيله العلمي كان في النجف الأشرف طوال ١٨ عاما، وعاش البحرين والعوامية وسيهات، وأقام قرى القطيف موجها ومرجعاً فترات بالأسابيع، كما تميز عن فقهاء عصره لاسيما فقهاء المنطقة قوله بوحوب الجمعة واقامته لها في القطيف، ووصف في كتب الآخرين، إذ قال المبارك في حاضر البحرين: كان جميلاً لم تر عيني أجمل منه، وقال الخاقاني في شعراء الغري : كان رجلاً طوالاً وكان منطيقاً حسن المحاورة.

وفي الحقيقة ليس من عادتي الحديث في مثل هذه الاتجاهات، بيد أن ما لفتني أن لمأوية الإمام الراحل كان كراسة مهمة أعدها الكاتب محمد أمين أبو المكارم بهذه المناسبة، ومن الكراسة جال في ذهني الكثير من الطاقات في بلدة العوامية منذ أزل التاريخ ومواصلة الأبناء لمسيرة الأجداد العلمية، وهذا بطبيعة الحال لا ينفي وجود التعليم في المناطق الأخرى، بل يمكن القول بأن العوامية حاليا متميزة بالأطباء مثلًا، وفي ذلك الوقت تميزت بنفس القدر من التميز في علماء الدين.

يقول الكاتب محمد أمين أبو المكارم في الكراسة ما نصه: “قبل مائة عام وفي الثالث عشر من محرم الحرام، التحق بالرفيق الأعلى آية الله الإمام المجاهد الفقيه الشيخ جعفر أبو المكارم رضوان الله عليه، وكأن القدر انتظره أن ينهي مجالس عاشوراء في أرض هجرته وموطن نشأته ليعود إلى موطن أجداده وسلفه من العلماء الأعلام في أرض العلم والعلماء البحرين، ليقول له ألق عصا الترحال، فقد آن لك أن تترجل، وترقد بسلام إلى جوار ضجيعيك العالم الرباني الشيخ ميثم البحراني، وأستاذك العالم الفقيه ومربي الفقهاء الشيخ أحمد آل طعان”. ويشير بوضوح إلى أنه “ولد في العوامية وتلقى علومه الأولية فيها”. وما يهم هنا أن العوامية كانت قادرة على منح التعليم الأولي في ذلك الوقت بحكم تواجد العلماء فيها السابقين على الإمام الراحل، ما يعني وجود بيئة علمية ممكنة في ذلك الوقت.

ونختم بقول الكاتب: “الحديث عن عالم من علماء القطيف يتطلب منا الإلماح إلى الحركة العلمية فيها، بل وفي البحرين، وذلك لأن الحركة العلمية في القطيف في معظم مراحلها ما هي إلا انعكاس للحركة العلمية في البحرين (وذلك للارتباط الوثيق بين المنطقتين، بل لقد كانت منطقة واحدة في معظم حقب التاريخ)، ولكن ذلك يتطلب مساحة واسعة لا تسعها هذه المقدمة، كما أن الحديث عن عالم من علماء المنطقة ترك بصماته في نفوس الناس حتى اليوم بالرغم من مرور قرن من الزمان على رحيله، يتطلب جهدًا ووقتًا ووقفات، وعلى الجيل الجديد من المهتمين بتراث المنطقة وآثارها يعقد الأمل”.



error: المحتوي محمي