تحت ظلال الدوحة النبوية وُلِدَتْ ونشأت، وتزين اللوح المحفوظ باسمها كما تزين باسمي أخويها.
قيل: لما ولدت، وأشرقت بنورها على الكون، في اليوم الخامس من شهر جمادى الأول في السنة الخامسة للهجرة (5/5/5هـ) أخذها جدها المصطفى – صلوات الله وسلامه عليه – فقبلها، ثم أمر بإكرامها ورعايتها، لشبهها بجدتها خديجة بنت خويلد سلام الله عليها.
إنها السيدة الهاشمية، الحوراء، العقيلة الدارجة في بيت الوحي، سليلة الطهر والعفة، فخر المخدرات، العابدة المنقطعة إلى الله تعالى، تالية القرآن، الراشفة من المعارف الإلهية، جبل الصبر؛ زينب بنت أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
هذه السيدة العظيمة نموذج للمرأة الرسالية المسلمة القوية، الصابرة، الحكيمة، نموذج يقتدى به بما تحمل من مُثل وقيم ومبادئ، لو تمسكنا بها لحظينا بالسعادة في الدارين.
هي مدرسة تفرعت من مدرسة النبي محمد وعلي وفاطمة – عليهم سلام الله – في قوة الإيمان والصبر، والعلم والحلم، والحكمة، والفصاحة، وقوة المنطق، والإباء، والشجاعة.
نالت درجة الإلهام بصريح كلام ابن أخيها زين العابدين: “يا عمة، أنت بحمد الله عالمة غير معلمة”.
شخصية فذة، ونموذج فريد في عالمنا النسائي، شخصية تعددت أبعادها وتفردت، فلا يمكن حصرها في كلمات لا تساع فضاء عالمها الرحب.
نفرد هنا مساحة عند بعض ما مر بها، وما ثبت في أذهاننا وقلوبنا منذ الطفولة، عند المصاعب والمصائب التي عاصرتها. نقف بإجلال وتقدير، وبألم وتمعن في قوة الإيمان والثبات واليقين، والصمود والصبر؛ لنتعلم ونعتبر.
أوجز هذه الوقفة في النقاط التالية، قبل أن أشير إلى ختام حياة من تجلببت برداء العزة والإباء:
– معايشتها لأهل بيت النبي في محنهم وما مروا به من مآسٍ.
– فقدها لجدها النبي محمد، وأمها فاطمة الزهراء وأبيها وأخيها الحسن واحدًا تلو الآخر.
– قطعها لذلك الطريق الصعب من المدينة إلى أرض الطف، تحفها كوكبة من شباب أهل البيت وعلى رأسهم أبو الفضل العباس قمر بني هاشم، حامل اللواء، والفارس الهمام. الذي تكفل بجميع شؤون القافلة، وحركة سيرها، برعاية تفوق الوصف.
– المؤازرة والنصرة لأخيها الحسين.
– تقديم أولادها ضحايا فداء لإمامته.
– مواساتها لأخيها، فهي نائبته وشريكته في ثورته على الظلم والجور.
– رؤيتها للفجائع بأم عينها.
– مشاهدتها مصارع الشهداء من خيرة بني هاشم، وبينهم سيدهم ريحانة المصطفى.
– جلوسها عند الضحايا تندبهم وهم أشلاء مجزرين على صعيد المنايا.
– تقديمها لقرابينها شاكرة لله، قيل: عندما انتهت إلى جسد أخيها المضرج بالدماء بسطت يديها تحت بدنه الشريف ورفعته إلى السماء، وقالت بمرارة وألم: (إلهي تقبل منا هذا القربان).
– توديعها للجسد الطاهر وعودتها لمخيم النساء والأطفال المنهكين حزنًا وعطشًا؛ لحراسته وإقامة مأتم الشهداء لتختم ليلة من أقسى الليالي وأمرّها، ليلة الحادي عشر من المحرم – سنة 61 هـ / 12 أكتوبر 680 م – تلك الليلة المؤلمة العصيبة. قضتها بالصلاة وبالتهجد إلى ربها ومناجاته.
– سبيها وأخذها أسيرة إلى مجلس الأعداء.
– رؤيتها للرأس الشريف ورؤوس أهل بيتها مشهورة على رؤوس الرماح.
– حفظها لوديعة الله الإمام السجاد مضحية بنفسها في سبيل بقائه.
– رعايتها العيال وهم جمع من الأرامل والأيتام.
– مواجهتها للأعداء وخطبتها فيهم في الكوفة والشام، خطب تجلت فيها قوة منطق أبيها وبلاغته، وفصاحة أمها السيدة فاطمة الزهراء في “خطبتها الفدكية”.
– هذه الحيدرية العظيمة ابنة الإمام حيدرة الضرغام “علي بن أبي طالب” التي أثخنتها الجراح، صدعت بقصة الطف الرهيبة مجلجلة، تطبق بها الآفاق، وخلدت ملحمة كربلاء، التي تعد من أهم الأحداث العالمية بما حققته من أهداف غيرت مجرى تاريخ الشعوب الإسلامية.
صدقت وتحققت مقولة الحوراء زينب الشهيرة للخصم: “والله لن تمحو ذكرنا”.
ولا ننسى عبارتها الخالدة:”ما رأيت إلا جميلاً”، رداً على سؤال العدو الشامت: كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟!، فكانت إجابتها التي زلزلت كيانه، وقلبت الموازين رأساً على عقب، فلم يتوقع هذا الرد من امرأة منكوبة بأولادها وأخوتها وعشيرتها، والأصحاب، ردٌ ينم عن اتزان موروث في شخصيتها، واحتساب ورضا بقضاء الله.
ولولا الدور البطولي والإعلامي الذي قامت به بطلة كربلاء، مع ابن أخيها الإمام السجاد؛ لضاعت نهضة الإمام الحسين، وأهدافها الحقيقية، ذلك ما يراه المحللون، ويشهد لها به الكتاب والمؤرخون.
وها هو الفضاء الإلكتروني – رغم ما يمر به العالم الآن من كوارث – يضج بإحياء الذكرى الأليمة، كنهرٍ سيالٍ يتدفق، ويروي ظمأ المتعطشين لمعرفة حقيقة ما جرى.
هي شهيدة بيت الوحي أيضًا، ليس بالسيف والسم. ولكن بمصائب عجيبة وكوارث رهيبة مرت بها تنهد من هولها الجبال الراسيات، واجهتها بثبات ورباطة جأش وشجاعة هزمت بها الأعداء في حينها.
إن مفهوم الصبر لا يتنافى مع حالة البكاء والحزن إذا لم يخرج الإنسان عن حالة الرضا والاعتراض على قضاء الله.
فقد قضت زينب الكبرى (ع) نحبها بعد أن أمدها الله بالروح العلوية والفاطمية لتحمل الدور الجسيم الذي قامت به في النهضة الحسينية، انتقلت روحها إلى بارئها، بعد عام أو أقل من واقعة الطف – في 15 من شهر رجب / سنة 62 هـ – حزنًا على أخيها حبيب المصطفى – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – حباً له وشوقاً إليه، ليبقى قبرها النوراني رمزاً للعزة والكرامة والإباء.
لله در الشاعر حسن البغدادي:
يا قلبَ زينبَ ما لا قَيتَ من مِحَنِ
فيكَ الرَّزايا وكل الصَّبْرِ قد جُمعا
لو كان ما فيكَ من صَبْر ومن مِحَنٍ
في قلبِ أقوى جِبال الأرضِ لانصدعا
يكفيك صبرًا قلوب الناس كلهم
تَفطَرتْ للذي لاقَيتَهُ جَزَعا
سلام الله عليكِ يا سيدتي ومولاتي يا زينب الحوراء، فمن سيرتكِ اعتبرنا، وبنهجكِ اهتدينا، ولما جرى عليكِ وعلى آل المصطفى سكبنا العبرات، مواساة ووفاءً وولاءً لكم، وأداء بعض حقوقكم التي فرضها الله علينا في كتابه المنزل، كما جاء في آية المودة، إذ يقول الله عز وجل: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ} (الشورى: 23)، و”القربى” أنتم يا آل المصطفى، وأنتم عشقنا الأبدي.