ما زلت أتذكر طفولتي بالمدرسة المتوسطة عندما طلب مني معلم التربية الفنية إحضار لوحات تشكيلية لأخي ( الفنان ) الذي يكبرني ببضعة سنين ، بهدف المشاركة بها في أحد معارض التربية و التعليم كواجهة للمدرسة ، و وعدت بأنها سوف تذيل بإسمي ، أخذني الحماس و بإصرار مني أقنعت أخي كي يوافق لكن بشرط أن ترجع اللوحات فور انتهاء المعرض .
مرت عدة أسابيع على انتهاء أيام المعرض وأنا أسأل أستاذ الفنية بين الفينة والأخرى، متى سترجع الأعمال ؟ فأخي قلق جدًا، فلا أجد من مدرسي غير الصمت وعدم الاكتراث و اللامبالاة ، انقضى العام و لم ترجع لوحات أخي !
عندها أصبت بحالة من الذهول و الندم و الأسى ، و أخي ينظرني بعلامات الصمت المبهمة ، حيرتي و فضولي قاداني أن أسأل أحد المعلمين عن مصير اللوحات فقال متعجبًا هل هذه اللوحات لأخيك ؟ قلت : نعم ، فقال: لكني وجدت اسم المعلم عليها وهو المشارك بالمعرض !!!
عزيت نفسي و أخي بقليل من الكلام ، وطويت صفحة مؤلمة بين الذكرى والنسيان لطفولة بريئة .
مرت السنون و هذا أنا اليوم أصبحت معلمًا للفنون بالتعليم لعقدين من الزمن أبذل كل ما بوسعي في مجال تخصصي أعلم النشء و أرغبهم في حب الفن وممارسته بطرق وبأفكار متنوعة ومهارات متعددة ، و كل ما يهمني هو إعطاء هذا الجيل فرصة للتعبير عن أنفسهم بأنفسهم دون تدخل أو ادعاء ، مرادي أن يعيشوا متعة الفن و يتألقوا لصنع الجمال حسب جهدهم و خيالهم . أصبح الفن عندي كل شيء ، عشت وعايشت معه في الكثير من المحافل الخاصة و العامة كانت لي دعوات التنظيم و التنفيذ ، أقوم بها كعمل فردي أو بصفة تنظيم جماعي أو خيري ، وهكذا تمر الفعاليات تلو الفعاليات دون أن التفت أو أسترجع ما خزنته ذاكرة الصغر .
إلى هنا حكايتي لم تنته فهي تروى و تكتب لأخذ الحيطة و العبرة ، فذاكرتي لا يبدو عليها أي تضخيم للأسى ولكنه موقف موجع لتاريخ طفولتي قد يتكرر لكن بصيغ أخرى .
كلنا يعلم أن لكل محفل تغطية إعلامية أما أن تكون سباقة في نقل الحدث بكل أمانة و موضوعية أو يستدعيها من يهمه الأمر و يشكلها على هواه في تزييف الصورة التي لايراها الإعلامي بالكامل ، الإعلام كأي إعلام يعشق بسط الذراعين أمامه بالتوثيق و الأدلة جاهزة لكي ينشر في الحال ، ومع الأسف تكمن اشكاليته في دوامة الإستعجال ؟ قد نكون منصفين معه فهو بالفعل يشجع على الكثير من الفعاليات و المناسبات الاجتماعية الخاصة منها و العامة بتغطيات محترمة و مقدرة . لكن مشكلته تترجح بين الحدين، إما أن يكون منصفًا فيرفع من مقام المشهد بصورة إيجابية أو يكون مشوها له فيُسقط في البهتان ! و ربما هذه ليست مشكلته بالكامل ، بل هي مشكلة من يأخذ منه تفاصيل الحدث ، الإعلام لديه آلياته و في و ضع الخبر من ملخصات و تفاصيل مفيدة لصياغة التقرير أو التغطية، يذكر فيها على سبيل المثال الراعي و الداعم و المنفذ و حجم الحضور وينسى الأوجه الأخرى للفعالية .
وعلى الرغم من خدمات الإعلام الجليلة الذي لا تنكر و هو أحد أعين الحقيقة في نقل أي خبر، إلا أنه قد يصبح فريسة من قبل المتسلقين على ظهور الغير . و لا أقصد بصاعدي السلالم الخيرين ، و إنما أعني صاعدي الأكتاف والذين يعتقدون أنهم هم الوحيدين المميزين و بذواتهم سيديرون كل دفة باللسان بدون فعل يذكر ، هؤلاء لا زالت المجتمعات تصدر منتجات على شاكلتهم بأجناس مختلفة ، يعشقون الظهور في كل شاشة و لقطة و هذا ليس عيباً بعينه ، إنما كيف يريدون أن يظهروا و بأي صفة يريدونها ، هؤلاء ليست سلالمهم قطع من الخشب أو الحجر إنما هي قطع من اللحم البشري يصعدون بأحذيتهم يمزقون و لا يبالون وينتهزون الفرص في سلب كل منجز أو عمل إجتماعي أو خيري ، يسجلون براعة صعودهم بكل كبرياء بـ ( موسوعة الصاعدين ) .
أما أصحاب الأكتاف الحقيقيون هم الكادحون أصحاب العمل و الإنتاج و الانجاز تراهم يعملون بصمت و لا يتكلمون و هذا ما جعلهم يسلبون ويؤسرون ويعيشون الحرمان . فهم اصحاب النوايا الطيبة .
أعين الإعلام أحيانا غشيت رؤيتها فلا ترى الا همجية الصاعدين بالتظليل و التطبيل ، ففي كل محفل يطرقون الإعلام ليبحث لهم عن عنوان رنان ، صاعدي الأكتاف ومالكي الطبول بالتجيير والتملق ليكونوا هم وحدهم أصحاب الفضل و الإنجاز و المكانة ، يا ترى من الملام هنا هم أم الإعلام الغبر مستنير !؟
أيها الإعلام هل أنت حقًا المخطئ و الملام أم الدخلاء السارقون لكل منجز !
ومتى ستستفيق من هذه الغفلة و تدخل عمق الميدان و تبحث عن أصحاب الشأن الحقيقيين بدلًا من مداهنة السراق وتلميعهم بأفضل الصور .
حكايتي ليست بالجديدة إنما هي حلقة مستمرة تفوق حلقات المسلسلات التركية بكثير ومنذ ذلك الزمن و أنا أشاهد سرقة الأسماء و الصعود على البسطاء ، يا لها من حكاية تجرح المشاعر .
و سؤالي يتكرر مراراً وتكراراً :
إلى متى هم صاعدون يا إعلام ؟
من المسؤول
أنت أم المتسلقون ؟!