
في مصر العربية رحل عن عالم الدنيا الدكتور “محمد مشالي” المعروف (بطبيب الغلابة) بعد أن علمنا أن الرحمة الحقيقية بالفقراء والمعوزين هي ليس فقط مجرد تألم في القلوب ودمع في العيون وإنما هي بالوقفة الصادقة التي تدفع حاملها لمساعدتهم.
علينا دائماً أن نعوّد أنفسنا على فعل الخير في هذه الحياة، فالحياة مجموعة من الدروس والمواقف السعيدة أو الحزينة، وفي كل يوم تعطينا درساً جديداً نتعلّم به، ويضاف إلى خبراتنا في هذه الرحلة القصيرة التي نعيشها بحلوها ومرّها، لنتمكّن من تحقيق المزيد من النجاحات في مسيرة حياتنا، ولنجعلها جميلة ومزدهرة.
الدكتور محمد مشالي صبر على تحمل هموم الفقراء والبسطاء، وقضى نصف قرن في خدمتهم ولم يغير في سعر الكشف على مرضاه الذي لا يتعدى الـ١٠ جنيهات! في زمن وصلت فيه مهنة الطب إلى تجارة رابحة في تجفيف جيوب المرضى، لكن لسان حاله يقول ماذا أفعل بالأموال ومغريات هذه الحياة والتي لن أرحل بشيء منها عندما يحين الرحيل، في مقابل أن خدمة الإنسانية هي أغني وأبقى وأعظم عند الله تعالى.
الصبر على المصاعب هو من الدروس المهمة التي على الإنسان أن يتعلّمها من الحياة، وذلك لأنّ الحياة عادةً لا تخلو من المصاعب والعقبات التي تتطلّب الصبر الطويل، ويكون ذلك بتقبّل الإنسان وحمد الله تعالى على كل وضع وحال يمر بهِ، وأن يسعى وبكل جهدٍ وإرادة لتحقيق ما يُريد معتمدًا على جهده وإيمانه برب العالمين، وأن يؤمن بفكرةٍ في غاية الأهمية ويُطبقها في حياتهِ اليوميّة وهي أنّ الصبر مفتاح الفرج.
عاش الدكتور محمد مشالي عمره كله ببساطة الملبس والمأكل والمشرب بعيداً عن حب الأموال والأهواء وبعيداً عن أضواء فلاشات الكاميرات الزائفة، والله تعالى كرمه بأحسن من ذلك عندما جاءت الكثير من الصحف المصرية لتتنافس على محاورته والتقاط الصور له ليصبح حديث الناس داخل مصر وخارجها، وليصبح رمزًا للعطاء وأيقونة لصناعة الأمل في نفوس الفقراء والمساكين ولخدمة الإنسانية.
أيها الطبيب النبيل ليتك كنت تعرف أن في مجتمعنا الكثير من الفقراء والمساكين لا يزالون عاجزين عن الوصول إلى المستشفيات الخاصة للعلاج، وإذا وصلوها فهم عاجزون عن دفع تكاليفها، لأنه ليس كل أحد يستطيع أن يضع رجله على عتبة أبواب المستشفيات الأهلية في بلادنا لأنها مسعورة، وربما تصدر لك فاتورة وتحاسبك على المرور بشارعها أو قراءة لوحتها من بعيد، فمن الأفضل الابتعاد عنها وأن يبتعد عنها كل صاحب دخل محدود.
بين الحين والآخر أسأل نفسي: لماذا لباس الأطباء لونه أبيض؟ بعدها أيقنت أن هذا اللون لا يلوّن؛ لأنه صادق ونقي لا يزيّف الحقائق ولا يعطيها لونًاً سوى لونها الحقيقي، وأيقنت أن التواضع يحطم الغرور، والاحترام يسبق الحب، والصدق يسحق الكذب، والتوبة تحرق الشيطان، والتواضع شعار الأخلاق.
ختاماً، إن الوقفة الصادقة مع الفقراء والمعوزين لهذا الطبيب المتواضع جعلتهم يشعرون بأن ضمير الإنسانية لا يزال ينبض في زمن المادة، وإن خدمة الناس تنمي روحية التواضع وتقمع الكبر، وتنثر الصفات الجميلة في الإنسان كالسخاء والعطاء، قال الله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.