رسمت لها معلمتها قصة النجاح، كأنها خطوط محددة على قطعة باترون وتركت لها مهمة التفصيل والخياطة لتنتهي تلك القصة كقطعة مميزة من تلك القطع التي تنتجها، متخذةً من عبارة تلك المعلمة الصديقة: “ستكونين خياطة بارعة في المستقبل وسيكون لك بصمة جميلة”، محركًا لها، فرغم مرور سنوات على رحيل تلك المعلمة ما زالت تراها في كل إنجاز لها، وتسمع نبرة صوتها في كل كلمة مدح أو ثناء تتلقاها من زبوناتها.
بدأت قصة سكينة العلي مع الخياطة منذ المرحلة المتوسطة، وتحديدًا في الصف الثاني متوسط، ولم يكن منهج مادة التفصيل أو ما كتب فيه هو السبب الرئيسي لارتباطها بتلك المادة، التي قد تهرب منها الكثيرات من الفتيات في مثل عمرها، بل كان الارتباط بها ارتباطًا إنسانيًا، أو إن صح التعبير كان ارتباط “قدوة”، بعد أن وجدت فيه معلمة المادة مصدرًا لحبها.
تقول “العلي”: “أحببت الخياطة في المدرسة، حينما كنت في الصف الثاني متوسط وأسند منهج التفصيل للمعلمة نجلاء السنان، كانت معلمة جميلة القلب والقالب، اجتهدت كثيرًا لتعطي المنهج أكثر من حقه، وكان عطاؤها لنا نابعًا من القلب هكذا كنا نشعر، وتعلمت على يدها الكثير من الأمور، وبدأ حب الخياطة يسكنني”.
وتضيف: “مع الأيام ومع تطوري وتفوقي في مادة التفصيل، كانت معلمتي حينما تجدني انتهيت من شغلي مبكرًا كانت تسامرني بأحاديثها اللطيفة، ولطالما قالت لي ستكونين خياطة بارعة في المستقبل وسيكون لك بصمة جميلة”.
تعلقت الطالبة بمعلمتها، وذلك التعلق جعلها ترتبط أكثر وأكثر بمادة التفصيل، فنشأت علاقة صداقة، تصفها بقولها:” كانت علاقتي بها من أجمل الصداقات في حياتي؛ فداخل المدرسة طالبة ومعلمة وخارج أسوارها صديقات”.
رحيل الصديقة
تمتلأ ذاكرة الطالبة المنحدرة من بلدة الجش بكل حكايا المعلمة الصديقة، حتى بعد مرور قرابة العشرين عامًا على تلك الصداقة، فالعلاقة لم تنقطع رغم أن الموت حاول قطعها، إلا أن سكينة ما زالت تحمل صديقتها نجلاء في كفوف دعائها، وتلاوة آيات الله، وحتى في أحاديثها عنها ونسب الفضل لها فيما هي عليه الآن.
تسترجع ذكرى ذلك اليوم المؤلم وتقول: “كانت معلمتي مصابة بمرض السرطان، إلا أنها تماثلت للشفاء بعد فترة علاجها، لكن قضاء الله وقدره اختارها لتعود إلى بارئها، وكان يوم رحيلها من أصعب الأيام على قلبي، بل إنني حتى هذه اللحظة لا يمكنني أن أصف مشاعر ذلك اليوم”.
وتمضي في سرد ذكراها: “في يوم الأربعاء الثالث من شهر رمضان المبارك سنة 1424 هـ، كنت قد لبست مريولي ومستعدة للذهاب للمدرسة، إلا أنني تراجعت وأنا عند الباب، عدت للداخل وقررت الغياب، وما إن انتهى الدوام حتى عادت أختي أبرار بالخبر المفجع، دخلت علي تقول: أختي سأقول شيئًا لكن تمالكي نفسكِ، “أبلة نجلاء” توفت اليوم”.
وتتابع: “نزل الخبر على قلبي مثل الصاعقة تمامًا وانتابني حزن شديد على فراقها، وبعد وفاتها عدت للمدرسة وكان الفصل الثاني من الدارسة قد بدأ، فكنت أذهب يومًا وأغيب عشرة أيام، وقبل الاختبارات النهائية لم أقدر أن أكمل، كنت أراها في كل زوايا المدرسة، لذلك تركت المدرسة، ولم أعد لها منذ ذلك اليوم، لكنني لم أقف عند عدم إكمال الدراسة، فقد واصلت حياتي وحققت شيئًا كانت – رحمها الله – تراني فيه وتطمح أن أكونه”.
صدفة
رغم تعلق سكينة بمادة التفصيل، إلا أنها لم تفكر في تطوير موهبتها التي اكتسبتها من معلمتها الراحلة بعد تخرجها في المدرسة، حتى عام 1431 هـ، كانت وقتها عائدة من العمرة برفقة صديقاتها حوراء عبد الهادي السلمان، وفي طريق العودة ووسط الحديث اقترحت “العلي” على صديقتها أن تلتحقا بدراسة الخياطة فرحبت الأخرى بالفكرة.
وتعود بذاكرتها: “سهرنا حتى الصباح ثم توجهنا إلى مركز التنمية الاجتماعية بالقطيف، وقدمنا أوراقنا للتسجيل، وكان المركز حينها قد بدأ الدورة قبل التحاقنا بشهر تقريبًا، إلا أن مدة الدورة كانت سنة كاملة، وما إن سجلنا حتى تم قبولنا مباشرةً، ودخلنا الحصة منذ أول يوم”.
وتتابع: “كانت المدربة سمية الناصر، وقد تعلمنا ملابس الكبار وغيرها، ورغم أنني وصديقتي حوراء أخذنا الأمر في بدايته لعب وتسلية، إلا أننا بعد ذلك أبدعنا”.
دورة ونصف
أنهت “العلي” دورة السنة شاملة، وبعدها قررت الالتحاق بدورة خاصة بتجهيزات الأطفال مدتها شهر، إلا أنها كانت مسافرة في عند بدئها ولم تلحق إلا على آخر أسبوعين فقط، في نفس المركز.
ولم تقف عند تلك الدورة فحسب، بل حاولت أن تطور نفسها أكثر، فالتحقت بدورة خاصة بفساتين الأطفال عند المدربة ليلى هليل، التي تقول عنها: “دورة الأستاذة ليلى أكثر دورة استفدت منها، كما أنني إلى الآن لا أستغني عنها، ولا تزال تنصحني كما أنني حين أقع في حيرة أرجع لها، إنها بحق قلب كبير وتستحق كل خير”.
مصاعب إبرة
تعتبر “العلي” أن النجاح لا يأتي دون أخطاء، لذلك لم تكن تخجل من أخطائها التي وقعت فيها في بداياتها، أما عن أبرز المصاعب التي واجهتها فأوضحت: “عندما تنكسر إبرة ماكينة التنظيف، كنت حينها أخاف منها فأحاول الاتصال على مدربتي لتعلمني كيف أعاود تركيبها، لأن ماكينتي حساسة وأي خطأ بسيط قد يتسبب في عدم تشغيلها مجددًا، إلا أنني بعد ذلك ومع الممارسة أتقنت تركيبها جيدًا، كما أنني أؤمن بمقولة “اغلط تنجح”، فوراء كل خطأ نجاح، والخياطة مشوارها طويل وليس له نهاية”.
ومضت في حديثها: “نعم الخياطة تجري في دمي، وهي بمثابة متنفسي الوحيد، إلا أنني في البداية كنت أخطئ وأضحك على نفسي، وأتضايق أحيانًا، ولكن الحمد الله وصلت لما أريده بعد تعب وجهد، لذلك لكل قطعة عملتها ذكرى خاصة”.
سوسو فاشن بيبي
استفادت سكينة من دوراتها جيدًا، ولم تجعل تلك الدورات مجرد شهادات مخزونة في أدراجها، بل قررت أن تفتتح لها مشروعًا تجاريًا، أطلقت عليه اسم “سوسو فاشن بيبي”.
تقول لـ«القطيف اليوم»: “اقتبست الاسم من معلمتي نجلاء رحمها الله، فقد كانت تناديني بهذا الاسم خارج أسوار الفصل والمدرسة، اختصارًا لاسمي، لذلك أسميت مشروعي باسم يربطني بها حتى بعد رحيلها”.
وتضيف: “المشروع كان مخصصًا للأطفال، فلطالما أحببت أشياءهم، وبعدما درست بدأته خطوة خطوة، مشيت فيه وهو ما زال صغيرًا حتى كبرته، لقد تعبت على نفسي بنفسي، إلا أنني لا أستطيع أن أحدد التكلفة لأن الخياطة تستهلك مبالغ كبيرة وبالذات إذا كانت الأشياء المستخدمة من النوع الممتاز”.
وتتابع: “كنت أشتري القطع الجاهزة وأفتح خياطتها ثم أعيد خياطتها من جديد، حتى وصلت لمرحلة الثقة بنفسي، وقد بدأت في عام 2012 وحينها كان عمري 26 عامًا، وبالطبع أنا أفصل جميع القطع بحسب ذوق الزبونة واختيارها”.
الأول الصعب
تحتفظ ذاكرة سكينة بأول قطعة باعتها، وهي عبارة عن طقم مولود كامل، تقول: “كان من أصعب الأشغال التي اشتغلتها، فقد كان يتكون من أكثر من قطعة قماش، ويتكون من قطع كثيرة للمولود والأم، وقد كان لزبونتي آلاء حسن الخميس”.
أمومة أنيقة
تخصصت “العلي” في خياطة وإنتاج أطقم النفاس ومفارش الأطفال وملابس القرقاعون، دون مساعدة، وبعد فترة اعتمدت على مساعدة صديقتها حوراء السلمان، ودامت هذه المساعدة لفترة، ثم بعد ذلك استقدمت عاملة علمتها على يديها، إلا أنها عادت مجددًا لتكون وحدها دون الاستعانة بأخريات يساعدنها في عملها.
أم الخير
تطورت “العلي” وتطور مشروعها، إلا أنها ما زالت متعلقة بأول ماكينة خياطة، تلك التي قالت عنها: “أحب ماكينتي الأولى وأسميها صديقتي المخلصة “أم الخير”، ولا أحب استخدام غيرها، رغم أنه لدي ماكينات أخرى، ومع ذلك أعود وأقول لا أحد ينافس أم الخير عندي كما أنني أخاف عليها جدًا لأنها هي من أخرجت سوسو لهذا العالم”.
أسعار وخامات
بدأت “العلي” بخياطة محامل الأطفال بـ100 ريال، إلا أن السعر ازداد بعد مضي سنوات، وترجع ذلك إلى تغير أسعار كل شيء سيما مع فرض الضرائب، مضيفةً: “كما أن الشيء الجيد والفاخر يفرض نفسه، وأي قماش غال ستكون كلفة القطع المنتجة منه باهظة، رغم ذلك لا تزال أسعاري في متناول الجميع”.
ولا تقتصر سكينة على الأقمشة الموجودة في الأسواق هنا، بل تجلب معظم أقمشتها من الخارج وكل بلد تسافر له تحب أن تجلب منه أي شيء يخص الخياطة وليس فقط الأقمشة.
تصدير لـ التوأم
سافرت قطع “سوسو بيبي” إلى أبعد من حدود قريتها، بل أبعد من حدود المملكة، فقد بدأت تتلقى طلبات خارجية من الدول الخليجية المجاورة.
تذكر: “وصلت منتجاتي إلى جيراننا في دول الخليج ولله الحمد، وقد كانت أول قطعة صدرتها خارجًا إلى دولة الكويت تحديدًا، وقد كانت لمولودين توأم، تلتها الإمارات والبحرين”.
تسويق
تسوق “العلي” لمنتجاتها عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، وحول ذلك بينت: “أكثر طريق أعلن عنه هو الواتساب، كما أنني افتتحت حساب إنستجرام، منذ بداية مشروعي، وهو وسيلة ممتازة جدًا”.
وتستدرك: “رغم ذلك فقد قللت جدًا من عرض منتجاتي على منصة إنستجرام، والسبب في ذلك الكثير من المواقف التي صادفت فيها شغلي عند أخريات غيري، كما أن كثيرات يأخذن الصور وينسبنها لأنفسهن رغم وجود حقوقي عليها، فحاولت أن أكتفي بالواتساب، كما أعرض جزءًا بسيطًا على السناب شات”.
سند العائلة
تتحدث سكينة عمن ساندها في مشوارها: “أمي أول المشجعين لي، خصوصًا والدي الغالي أطال الله في عمره، فقد وقف معي ماديًا ومعنويًا، وكان أي شيء أعمله يفرح من كل قلبه، ويشجعني ويرفع معنوياتي، وحتى هذا اليوم وجوده معي دائمًا سعادة لا توصف، ولم يقصر معي في كل ما أحتاجه، ولا يسندني إلا بكل ما هو غالٍ، وحتى هذا الوقت مع مشواري الطويل إلا أنني بعض الأوقات أرجع لوالدي”.
وتمضي في حديثها: “أما أمي العزيزة فكانت في البداية مترددة وتقول لي الخياطة تحتاج أناس تشتغل، لا أناس تلعب، إلا أنها بعد أن درست وشاهدت إنتاجي غيرت رأيها ويكفي دعواتها لي دائمًا”.
وتابعت: “إخوتي أيضًا لا أنسى وقفاتهم معي، فأختاي مثلًا كانتا تزودانني بأفكار لأنتجها، وأيضًا بنات خالتي زينب وفاطمة صالح العلي كانتا تصوران لي شغلي، وتعبتا معي وكانتا أي دعوة توجه لي هما معي، مضيفةً: “حقيقة، كل أهلي وأحبتي هم سندي، ولطالما كان نجاحي مصدر فرحهم وفخرهم”.
طموح
وجهت سكينة رسالة لكل “حواء”: “ابحثي عن أي شيء تحبيه في داخلكِ، وحاولي أن تصنعي منه مشروعًا خاصًا يعينك، أو يكون رفيقك في أوقات الفراغ، فنحن نحتاج لما يصنع شخصيتنا ويحدد كياننا، ولا نحتاج للدخل المادي فقط”.
وختمت حديثها: “رغم أنني حولت هوايتي لمشروع، ورويته حتى يكبر، إلا أن طموحي في الخياطة لا حدود له، وإن شاء الله أصل لما أريد وأحقق إنجازات أرفع بها رأس أهلي وأحبابي”.