في كلِّ مرة تسمح لي الأيامُ بزيارة الإمام الحسين (ع) وهي شحيحةٌ الآن، تستوقفني الألقابُ والكلماتُ التي يناديه بها عامةُ الناس وعلى الأخص نساء الأهوار والمعدان من مناطقِ جنوب العراق. تعابير لم اعتدها وأنا البحري الرطب الذي يناديه سيدي ومولاي وبكلِّ الألقاب والكنى السامية!
تتشح المرأةُ بالعباءة الخشنة موشومةَ الكف والذقن والجبهة في مثل صلابة بيت القصب الذي فيه تسكن وخشونة حياة الضنك في الأهوار، وحالما تصل تغدو ملهوفةً تقبل البابَ وتنهال الكلمات التي من يسمعها يظن أنها تخاطب أحدَ الرجال الأشداء من عشيرتها وإخوتها تستعديه وتستعين بمكانته عند الله على مصائبِ الزمن وقضاء الحاجات، وليست تخاطب إمامًا تهابه الدنيا ويذعن لطاعته كلُّ الناس.
بحق “اشواربك”، واشتقنا لك يا “احسين”، هكذا يسري حب الحسين في طبقاتِ الناس فمنهم من يرفعه إلى أعلى مقام ومنهم من لا يظن به إلا أنه واحدٌ من الأمة بالطبع ليس في التضحيةِ والشهادةِ والإمامة لكن في إحساسه بالناس وتواضعه ونخوته التي يطمع فيها الأقوياءُ والضعفاء على حدٍّ سواء.
وإن اختلف المفكرون والمثقفونَ في معنى كلمة “إمام” وعلى الأخص الحسين (ع) فأجمل معنى لها أنه فردٌ من الناس لكلِّ الناس يحيا من أجلهم ويكدح من أجلهم دونَ تمييزٍ أو تفريق ثم يموت برتبةِ شهيد وتبقى روحه بينهم، حتى إذا كان يوم البعث كان شفيعًا لهم. وأجمل وصف للإمام هو ما قاله ضرارُ بن ضمرة في علي بن أبي طالب (ع): “كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه وهو والله مع قربهِ منا وقربنا منه لا نكاد نكلمه هيبةً له”.
كلُّ من هو من جنس البشر وحتى الأنبياء “يأكل الطعام ويمشي في الأسواق” وليس الحسين (ع) إلا من أوساط من أحبه وافتداه من الناس، فلا يجب أن أغتم أو أحزن إذا ما دعا المحبُّ الحسينَ بكلِّ ألقابِ الرجولةِ والشهامة والسماحة والجود!
ماذا تظن أن جواب الحسين (ع) لهم يكون إذًا حينما يقرعون الباب؟ بالطبع كان يقول لهم: إن كنتم ضيوفًا أكرمناكم، أو عارين كسوناكم، أو جائعينَ أشبعناكم، أو غارمينَ أعطيناكم، فهو ذو السماحة حيًّا وميتا.
إنه موسم ذكريات الحسين تدبُّ في شرايينِ الحياة حين يعج الداعون إلى الله في عصرِ يوم عرفة، التاسع من ذي الحجة، بكلماتٍ نظمها الحسينُ في عقدٍ من لآلِئ التوحيد والمعارف حين خرج من فُسطاطه متذلّلاً خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هوناً حتّى وقف هو وجماعةٌ من أهلِ بيته وولده ومواليه في ميسرةِ الجبلِ مستقبلًا البيت، ثمّ رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين، وقالَ ما قال من دعاء في موسوعة معارف دينية ودنيوية قيّمة، وتعاليم عرفانية لا نظيرَ لها ولا شبيه.