مع توافد الحجاج، في أوائل أيام شهر ذي الحجة، إلى مكة لأداء فريضة الحج تتجدد في الذاكرة هذه الرحلة بما فيها من خليطٍ من مشاعر التعب والنصب والفرح والبهجة، فيا سبحان الله وكأنها أيام من أيام الجنة!
تفيض مكة وضواحيها في عرفات ومزدلفة ومنى في مثلِ هذه الأيام وحتى نهاية اليوم الثاني عشر من ذي الحجة بملايين القاصدين لحج بيت الله الحرام “لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَام”، وهم أناسٌ أذن فيهم إبراهيم (ع) حين أمره ربه “وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ”، فقالوا له: سمعًا وطاعة يا إبراهيم.
فعندما تسلّم إبراهيم هذا الأمر الربّاني قال: إنّ أذاني لا يصل إلى أسماعِ الناس، فأجابه ربه (عليك الأذان وعليّ البلاغ)! فصعد إبراهيم موضعَ المقام ووضع إصبعيه في اُذنيه وقال: يا أيّها الناس كُتب عليكم الحجّ إلى البيتِ العتيق فأجيبوا ربّكم. وأبلغ اللهُ عزّ وجلّ نداءه أسماعَ جميع الناس حتّى الذين في أصلابِ آبائهم وأرحام اُمّهاتهم، فردّوا: لبّيك اللهمّ لبّيك! وإنّ جميع الذين يشاركون في مراسم الحجّ منذ ذلك اليوم وحتّى يوم القيامة، هم من الذين لبّوا دعوة إبراهيم.
وإن تغيرت الوسيلةُ في هذا الزمن فلم يعد “الضامر” ذلك الحيوان الضعيف، يجد في المسير ليقطع الفيافي والطريق الذي يجعله هزيلًا، يجتاز الصحاري الجافةً المحرقة لا زرعَ فيها ولا ماء، استعدادًا لتحمل الصعاب في هذا الطريق، فإن الغاية لم تتغير من شدِّ الرحال، ولا يزال الناس يأتون من كلِّ فج عميق، من الأماكنِ القريبة والأماكن البعيدة التي لا أحدَ يظن أن فيها من سمع دعوةَ الخليل عليه السلام، وإنها والله لمشقة إلا أنها حبٌّ عميقٌ لرب البيت.
حقّاً إنّ أذانَ إبراهيم الخليل جعل القلوبَ الطافحة بالإيمان تهوى إلى مكةَ والمشاعر من جميع الأنحاء، الشاب والشيخ والصغير والكبير والذكر والأنثى، من كلِّ اُمّة ومن كلِّ مكان، بعيدًا أم قريبًا، كلهم آتون اللهَ وبيته عشّاقًا ليشهدوا مظاهرَ عظمة الله ودين الإسلام في تلك الأراضي المقدّسة بأعينهم، ولكي يعودوا فرحينَ بأحمالِ رحمته التي شملتهم.
إن هذه الأماكن والأودية في هذا العام سوف تستأنس بمن قصدوها وإن كانوا قلة، فقد كان من عاداتها أن تستأنس بالملايين، فحتمًا سوف تعود مليئة تصدح بأصواتِ الملبينَ والداعين في صعيدِ عرفات ومزدلفة ومنى وتعود الملايين وأكثر.
لكلِّ من جمعتنا وإياهم تلك الرحلة، ولكل من نوى الحجَّ وصده ما تجدد في هذه السنة، ١٤٤١ هجرة، أضمروا في نياتكم الحج فمن لم يكتبها لكم هو قادرٌ وكريمٌ أن يملأَ صحائفكم حسنات، وكل ذلك بنياتكم فقد جاء في الأثر عن نبيكم محمد (ص): “نيةُ المؤمن خيرٌ من عمله ونية الكافر شر من عمله، وكل عامل يعمل على نيته”.
أما أنا فكما ما قال الشاعر البرعي قبيل موته في طريق الحج، فقد اجتاحني العجزُ والندم أن أكونَ من ساكني الوادي في هذا الحج:
تاللَه ما أحلى المبيتَ على منى
في يومِ عيدٍ أشرفِ الأعيادِ
الناسُ قد حجّوا وقد بلغوا المُنى
وأنا حججتُ فما بلغتُ مرادي