تذكرني أيامُ الصيف الحارة والرطبة بتطور الإعلام في الراديو والتلفزيون من إعلامٍ مهم وُلد خاص بالمترفين ثم استوى على عوده، لكنه سرعانَ ما شابَ ومات بعد أن أصبحَ لكل فردٍ في الكون إعلامه، يسمع ويرى ما يحب دون عناء! إعلام كان فيه من يملك المذياع أو التلفاز أو يقرأ الصحيفةَ شخصًا من المتنورين والمثقفين والآن من يسمع المذياع ويشاهد التلفاز فقط دون الإعلام الجديد لا يبعد أن يكونَ من المتخلفين والمكابرين.
لم يحط التلفاز رحلهُ في دارنا إلا في منتصفِ السبعينات في هيئة جهازٍ سميك صغير ويزن عشرات الكيلوجرامات – تقريبًا – نجتمع أنا وإخوتي لنقله من مكان لآخر، حيث إننا قبل هذا التاريخ كنا نسترق لحظات المرح من بيوتِ الجيران. ولم تكن طريقة استقبال قنوات البث أفضل حالًا من الجهاز ذاته، حيث في رطوبة الجو كان لزامًا على أحدنا أن يدور المستقبل -الأنتنا- الذي يهتز من فوق الحديدة كلما اشتدت الريح فتختفي الصورةُ البيضاء والسوداء وتحل مكانها خطوطٌ طولية مشوشة ويأتي الصوت متهدجًا.
إذًا، لا أخبار ولا تحليل ولا أفلام ولا ترفيه إلا تقطيع الوقت الذي هو متوفر أصلًا عندما تكون شابًا في مقتبل العمر بين خطوطٍ طولية وعرضية.
تطور هذا الجهاز في التسعينات وأصبح أخف وزنًا وأصفى في الرؤية وأوضح في التأثير. ورافقه تطور في كلِّ مستلزمات الإعلام من الأخبار والتحليل والاقتصاد والترفيه والتوجيه حتى كان أفضل مسلٍ ينقل الصورةَ من كل أرجاء الكرةِ الأرضية، بعد وصول الصحن اللاقط والشاشة الرقيقة، حتى لا تكاد تستطيع أن تعرف كم من القنوات تبث عبر هذه التقنية.
الآن ونحن في صيف ٢٠٢٠م هذا الجهاز والشاشة الرقمية الرفيعة استولى عليها حفيدي، ذو الثلاث سنوات، طوال ساعات النهار وهو لاهٍ عنها، فقط يسمع صوت الأطفال في واحدةٍ من قنوات الطفولة، فإذا حاولتُ أنا إسكاتها أو تغييرها بكى. فعلاً لم يبق إلا القليل من المخلصين لجهاز التلفاز والراديو هم من يتابعونه، أما الجيل الجديد والمخضرم فقد استعاض عنه بالإعلام البديل الذي يشاهده وقتما يحب وأينما يحب وهذا الإعلام قادر على التعرف على مزاج المشاهد وتزويده بالمادة التي يبحث عنها!
إعلامٌ لا يحتاج إلى محطة ومتخصصين ورأس مال، بل فقط لمادةٍ مكتوبة أو مصورة يستسيغها مشاهدٌ واحد ثم مليون ثم ملايين. بالطبع ليس كل ما يلمع ذهبًا، فليس كل كلمة هي واقع وليس كل صورة هي حقيقة وليس كل معلومة نافعة. لكن هكذا هو واقع الأشياء في التطور والتبدل وكيف يتطور معها الإنسان ويستفيد منها في الخيرِ والشر.
في أقل من خمسين صيفًا تحولنا من تلفاز بيت الجيران ومن قنواتٍ بعدد الأصابع إلى ما نحن فيه الآن من محطة بث واستقبال في يد كلٍّ منا والتجوال في أرجاء الكون ومعرفة ما يحدث في التو واللحظة، فمن يدري ماذا يحدث في المستقبل!