رحيلٌ بلغة الصامتين

أكثر ما يؤلم النفس أن يختطف الموت أُناساً مثل طيفهم نسيم هادئ هب في حياة الناس وترك لهيب الحسرة بعد رحيلهم، كفقيد بلدة الأوجام الحاج صالح السنان رحمه الله، ولعلي لا أملك من البلاغة للكتابة عن هذا الرجل الطيب المعطاء، لكني في مضمار المحاولة للتعبير عن المحاسن التي عبر عنها أمير المؤمنين عليه السلام: اذكروا محاسن موتاكم.

عرفت الفقيد منذ عقود من الزمن، فألفته كأخ أعتز بمعرفته، وآنس بمعاشرته، ولعل أهم صفتين تميز بهما صفة الإنسان النبيل، والباذل الكريم، فهما صفتان تمثلان انعكاساً لكوامن طينته الطيبة، وتجاذباتها النبيلة، ويفهم من روايات أهل البيت عليهم السلام أنهما صفتان متلازمتان، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: “ما اسُتجلبت المحبة بمثل السخاء والرفق وحسن الخلق”.

كان راقياً بخلقه، متواضعاً بتعامله، وصولاً برحمه، سخياً بعطائه، مبادراً للمعروف، مشاركاً للناس، فأكسبته خصاله محبة الناس واحترامهم، لذلك مثل خبر وفاته خبراً مفجعاً على أهله خاصة، وأهالي البلدة عامة، فتناقلت وسائل التواصل الاجتماعي خبر الرحيل، وأصدرت المؤسسات الخيرية واللجان الأهلية والدينية بيانات تعزية تثميناً لدوره الرائد في دعم برامجها ونشاطها، خصوصاً في تخفيف العبء على المصابين والمرضى في البلدة في الأزمة الراهنة، بحيث كتب البعض عن محاسن أخلاقه ومآثر كرمه، فلُقبوه برجل العطاء، وهو مصداق لقول أمير المؤمنين عليه السلام: “الجواد في الدنيا محمود وفي الآخرة مسعود”.

وقد تجد نظراء للحاج صالح السنان رحمه الله في سمة العطاء والبذل، لكن القلة منهم من يحيط عطاءه بهالة الكتمان، والبعد عن وسائل الإعلام، ولعلي لم أر أي صورة تكريم لبذله المستمر في أعمال الخير إلا بعد انتشار خبر مرضه في وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يدل على تمتعه بسمة الباذل في مرضاة الله، والصامت في خدمة الناس، والعامر لمساجد الله، والمساهم في خدمة شعائر أهل البيت عليهم السلام، لذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله: “سبعة في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله”، ومنهم: “رجل تصدق بيمينه، فأخفاه عن شماله”.

وسأخرج في حديثي المتواضع من زاوية الثناء إلى زاوية مهمة تتعلق بالأحاسيس والمشاعر وهي زاوية قد يصعب عليّ التطرق إليها، وأتحفظ على تبيان بعض جزئياتها، فلا ينفع الناس إلمامهم بها أو جهلهم بها، ولست أتعمد إثارة المشاعر في نفوس فاقديه لكنها الحقيقة المؤلمة التي حملها في نفسه وأخفاها ببسمة تملأ وجهه، وهو أجل مصداق للرواية الشريفة: المؤمن حزنه في قلبه، وبشره في وجهه، فعاش حالة الأمل في تحقيق أمنية انتظرها كإنسان طيلة عقدين وأكثر حتى فمن الله عليه بولادة ابن حمل اسمه غير مسرى حياته، وأدخل السرور إلى بيته.

فمثل قدوم ذلك الطفل الصغير فرحة عارمة ملأت كيانه لدرجة أني لمحت انعكاساتها لأكثر من مرة أثناء مداعبته لابنه الوحيد، وهذا ما بدا جلياً في إصراره على البقاء في البيت ورفضه الذهاب إلى المستشفى بعد إصابته بهذا المرض الخطير كي يأنس بصوته ابنه الصغير!!

فما عمق الحسرة على أب رحل تاركاً ابنه الوحيد طالما انتظره طول حياته ؟ وما شدة الألم عند أهل لم يستطيعوا توديع فقيدهم الغالي؟ وما مستوى غصة أُم تبددت أمنيتها في ترعرع طفلها الوحيد في كنف أبيه الحاني؟

لكن مشيئة الله شاءت أن يقام لهذا المولود الوحيد عقيقة كبرى كانت بمثابة عرس متقدم لرضيع لم يقدر لأبيه البقاء في الدنيا كي يتلقى التهاني في ليلة زفافه، واستقبلها يوم عقيقته، فالله قدر، وما شاء فعل.

وقد تثار هنا تساؤلات: ما الحكمة التي تتخللها دراما فقد هذا المؤمن مع تمتعه بصفة السخي في مضمار الخير والإحسان؟ وأين آثار صلة الأرحام والصدقة في حياته؟ وما علاقة ذلك بالعمر المخروم والمحتوم؟ وتساؤلات أخرى لست في صدد ذكرها، لكن الجواب الشافي عن هذه التساؤلات يكمن في أن الله لا يفعل إلا الخير والصالح بالعباد، لكن عقول البشر قاصرة عن الإلمام بحكمة الخالق، وإدراك غايته في فعاله وهو القائل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.

إن مقتضيات العقيدة تحتم علينا الإيمان بوفاء الله بعهوده، فالإحسان يُرد بمثله وبأفضل منه خصوصاً إذا كان في جنب الله سواء في الدنيا أو في الآخرة، وهو القائل :{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}، لذا أنا على يقين تام بأن الله سيرد له إحسانه، ويعوضه في الدنيا بذكر طيب يتناقله الناس، وفي ابنٍ خلفه بعد رحيله، بالإضافة إلى الجزاء العظيم الذي ينتظره في عالم الآخرة، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: “من بذل في ذات الله ماله عُجلَ له الخلف”.

أبا مهدي إنسان أتقن هدوءًا تخلل حياته، ونبلاً جمل به نفسه، وكتماناً احاط به بذله، وولاء علوياً ختم به عمره، وحزناً واكب ساعة رحيله!!

أبا مهدي: عشت بلغة معطاءة صامتة لم نتعود على صياغة أبجدياتها، أو إتقان مفرداتها، نم قرين العين في جوار وجهاء الدنيا الذين اقتديت بأخلاقهم وصنائعهم، فهم شفعاؤك في الآخرة.

أبا مهدي: ستفتقدك الأوجام إنساناً خلوقاً باذلاً سخياً، فلا عجب أن تحسر على فقدك الكثيرون، واجتهد في صياغة مفردات مآثرك المحبون، وأملي أن يتعاهد شجرة وفاء غُرست عند قبرك الوافون.

أتقدم بخالص عزائي ومواساتي بفقد هذا المؤمن المعطاء إلى أهل بلدتي الكرام، وأخص بالذكر عائلة السنان والجميع، وإخوانه وأخواته وجميع أرحامه، والحاج أحمد الجميع (أبو علي) وعائلته، ربط الله على قلوبكم بالصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى روح الحاج صالح السنان وأرواح المؤمنين والمؤمنات، رحم الله من أهدى لهم سورة الفاتحة مع الصلاة على محمد وآل محمد.



error: المحتوي محمي