لابد أنك تندهش وتتحير حين تقرأ لكاتبٍ مبدع أو تستمع لمفكرٍ فذٍّ يسترسل في أفكاره مثل السيل الهادر في الجمال والرصانة، لكن ذلك السيل لا يلبث أن يجرفَ معه حادثةً أو فكرةً ما، تراه ينقلها وكأنها واقعة مؤكدة لا تقبل النقاشَ والجدل فتعكر صفو أفكاره وتحيله من باحثٍ ومفكر إلى ناقلٍ وناسخ أعمى!
إن سلطة الموروث الفكري -لا سيما الديني- تجعل من نفسها أحيانًا فكرةً صلبة وحائطَ صد لا يستطيع المفكر أن يحللها ثم يرفضها بما فيها من ضغطٍ جماعي وتكلس تاريخي تَسلسل في النقل والتدوين فيصبح عنده من المسلمات التي لا تقبل الجدل.
فإذا ما أخذنا مثلًا مواجهة الكفار لدين الإسلام، فقد عجز المشركون عن إعمال عقولهم وأحالوا وجوب رفض وتكذيب فكرة التوحيد لمعتقدات آبائهم، ومن ثم قال عنهم القرآن {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}.
وهذا يعني أنه لم يكن لهم دليل ناهض إلاّ التقليد الأعمى للآباء والأجداد، وأنّهم كانوا يظنون أنّهم مهتدون بهذا التقليد، في حين لا يجوز لأي إنسانٍ عاقل حر أن يستندَ إلى التقليد في المسائلِ الأساسية ويقيم عليها بناءه الفكري، خاصة إذا كان التقليد تقليدًا متسلسلًا من جاهلٍ لجاهل. هذا المنهج يبعث على الشفقة فهو ليس عجزًا في ذات العقل عن التغلب على هذه الأفكار بل هو تعطيلٌ متعمد له ووضعه في غمده مثله مثل السيف القاطع الموضوع في جرابٍ قاس.
ومع أن هذا المنطق والنوع من التقليد كان موجودًا قبل تطور الفكر والعلم وطرق البحث والاستقصاء ووفرة المصادر، ومن المفروض أنه اندثر، إلا أنه لا يزال يسود ويغلب العقلَ ويعطله في كثيرٍ من الأحيان. فلا شك أن هذه ظاهرة تكاد تكون بشرية تستحق الدراسة والتوقف عندها فمع أن العقول المفكرة تطلب الأدلة والبراهين المادية على أبسط القوانين الفيزيائية والرياضية والكونية إلا أنها تصدق أبسط الخرافات فقط لأن شخصًا ما ذكرها في كتاب أو قال إنها حصلت!
لا شك أنّ في كيانِ الإنسان غرائز وميولًا مختلفة تجعله يميل إلى تصديق واتباع فكر ما، لكن المهم هو أنّها لا تتجاوز حدها ولا تخرج عن مجالها، وتتمرّد على العقل الذي هو قائدها، وتصرُّ على سجنه، ومن ثم تتحكم هي بكل وجود هذا الإنسان وقيمه وتجعل من هواه صنمًا يعبده!