ما إن اختلفنا بعد أن كان العيش صفوا والماء كنا نستقيه على ظمأ إلا وانقلب كلُّ الود خصومة واستحال الحبُّ بغضًا. إلى هنا لا بأس، لكن لم تجمع علينا الفجورَ والقطيعة؟.
سؤال يسأله اليوم الكثير من الناس الذين لم يكتف خُصماؤهم بقاعدة السنّ بالسن والعين بالعين، بل زادوا فيها ونشروا كلَّ ما كان سرًا وأذاعوه بين الناس وأحالوا كلَّ ما كان موجبًا في خصومهم إلى قيمةٍ سالبة وكلَّ فضيلة مذمة ومنقصة:
وقالوا قد صفت منا قلـــوبٌ
فقد صدقوا ولكن عن ودادي
وقالوا قد سعيـنا كـلَّ سعــي
لقد صدقوا ولكن في فسادي
فجور الأمس كان ينحصر في المجلس والحارة وإن زاد فلن يعدو أن يكون حديث المدينة ثم بعدها ينسى. أما فجور اليوم فيظهر في الصوت والصورة ويطوف جهات الدنيا الأربع، ويبقى مئات السنين يراه ويسمعه من يحب ويُبنى عليه أدوار من الأفعال.
الآن أصبح الفجور في الخصومة أمرًا غير مستنكر فتراه يحصل بعد اختلاف رأي من المفترض ألا يفسد للود قضية. فجورٌ بالجملة في كل مناحي الحياة يشارك فيه الرجالُ والنساء صغارًا وكبارًا. فكأنما الدنيا استقت وارتوت من ثقافة من قال وزادت عليها:
أَلاَ لاَ يَـجْـهَـلَـنَّ أَحَـدٌ عَـلَيْـنَـا
فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَا
أخال أن الفجور فكرة شيطانية يبدأها صاحبها بمحادثةٍ مع الشيطان كالتالي:
الشيطان: هل سمعت أن فلانًا فعل فيك الأفاعيل؟
الإنسان: نعم سمعت.
الشيطان: فعلا! ولم لا تأخذ بحقك؟
الإنسان: كيف آخذ بحقي؟
الشيطان: رد له الصاعَ صاعين حتى يعرف الناس أنك الأقوى ويعرف مكانته التي يجب أن يكون فيها.
ثم إذا ما آل الأمر إلى الإنسان والإنسان خرج منها الشيطان سالمًا معافًا ليبحث عن زبونٍ آخر ومحادثة جديدة. وكما قال نصر بن سيار حين استشعر بوادرَ الدواهي القادمة:
أرى تحتَ الرماد وميضَ جمرٍ
ويوشـك أن يكـون له ضـرامُ
فـإن النـارَ بالعـوديـن تُـذكـى
وإن الـحـربَ مبـدؤها كــلامُ
كل هذه المحادثات البشرية السامة مع الشياطين يقابلها أوامر من الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. نصيحة تعني ألا نكترث ونتأثر بأخبار الفاسقين وينبغي علينا الاستقصاء عند نقل الخبر.
حقًا، تحتاج الدنيا في هذه الأيام من يقول للشيطان: لا وكفى!
إن الكـريمَ إذا تمـكن من أذى
جاءته أخـلاقُ الكـرامِ فأقـلعا