بكاميرا جوال.. أبناء الجشي يسردون تراث القطيف المعماري في «ذاكرة الأرض».. والحمود بالإشارة

رسم الفنان علي الجشي تاريخًا تراثيًا للقطيف، مختصرًا ذلك التاريخ بذاكرة أحد منازلها القديمة، في 13 دقيقة فقط، التقطتها كاميرا جواله منافسةً الكاميرا الاحترافية، ولم يكتفِ بسرد ذلك التاريخ صامتًا بتجوال التقاطاته فقط، بل قرأ تفاصيله بمسمياتها العتيقة بمادة مكتملة قدمها أحمد الجشي، ونقلها فؤاد الحمود لفئة الصم بلغة الإشارة.

تتجول بك كاميرا “الجشي” في فيلمه “ذاكرة الأرض” داخل بيت “الجشي”، وتقرأ مع المصور ومن قام بالتعليق تاريخه، الذي يتنفس ذكراه من بين شرايين جدرانه، لتتعرف على الأماكن والزوايا بأسمائها الموغلة في القدم كذلك المنزل تمامًا، غير أنك قبل أن تصل للمنزل ستجد نفسك تربط الحزام استعدادًا للانطلاق في رحلة داخل خارطة القطيف وقراها.

150 مشهدًا
استغرق تصوير الفيلم، بحسب ما ذكره الجشي” لـ «القطيف اليوم»، فترات متقطعة، فقد بدأ بالتحديد في شهر جمادى الآخر من عام 1440، بأربع زيارات خلال الشهر.

يقول: “تم من خلال تلك الزيارات دراسة الموقع وتسليط الضوء على ما يميزه من الناحية الهندسية والنفعية والجمالية، وتصنيفها وترتيبها، وكتابة النص، وعدد من المشاهد، كما تم اختيار الزوايا في أكثر من 150 مشهدًا وبالتالي اختيار المشاهد التي وصلت بالمجمل إلى 12 دقيقة تصويرًا، بالإضافة إلى المقدمتين، لتصل مدة الفيلم إلى 13.45 دقيقة”.

وأضاف: “أثناء الإخراج تمت مراجعة المشاهد والنصوص لمدة تجاوزت شهرين من المراجعة، وإعادة التصوير والإخراج للمسودات، حيث كان من المقرر نشره قبل ستة أشهر ولظرف ما أجل إلى هذا الوقت”.

إبداع بسيط
استطاع “الجشي” أن يختزل المشاهد الخاصة بالفيلم بكاميرا هاتفه النقال، إلا أن المشاهد لا يمكنه أن يعقد مقارنةً ناجحة بين فيلم “الجشي” وأي فيلم آخر التقط بالكاميرات الاحترافية، وعلل عدم استخدامه لذلك النوع من الكاميرات بقوله: “مع تقدم التقنيات أصبح في متناول الجميع أجهزة جوال بجميع أنواعها؛ كاميرات تستطيع التقاط دقة مقبولة للمشاهد، ويبقى التحدي ليس بنوع الجوال، إنما باختيار زاوية المشهد وطريقة الانتقال”.

وتابع: “اختياري للجوال في تغطياتي السابقة والحالية يهدف إلى إيصال رسالة؛ أن فن وجمال المشهد ليس بالضرورة توفير أجهزة متخصصة أو احترافية لإخراج مادة إعلامية، فالأجهزة البسيطة يمكن أن تخلق إبداعًا إذا طوعت”.

وبين أن التصوير تم بجوال بدقة HD، مع حامل يدوي ومتحرك وميكروفون لاسلكي، أما الإخراج والمعالجة وربط المشاهد فكانت ببرنامج بسيط كـpower director

خارطة قطيفية
يبدأ الفيلم بمقدمة تشويقية لجولة في خارطة القطيف والتجول في مناطقها، اختار المصور خلالها أحياء القطيف التي لا تزال تتمركز فيها مناطق قديمة تحتضن مساكن تراثية، وهي محطات – حسب ما ذكر “الجشي” – يمكن تغطيتها في حلقات لاحقة، والمنزل الذي تم اختياره هو الحلقة الأولى.

كمعلم تراثي
سبق توثيق “الجشي” هذا تجارب مختلفة في توثيق منازل القطيف القديمة على اختلاف مناطقها، إلا أنه خصص هذا الفيلم تحديدًا لمنزل “الجشي”، وحول سؤالنا عن السبب أجاب: “كانت لي تجربة في توثيق المنازل الأثرية والتراثية في بلدات وأحياء القطيف القديمة؛ وجدت نماذج كثيرة من المنازل الجميلة، فكان لا بد من اختيار المنزل الذي يمتلك مواصفات تستحق التغطية وتقديمه للمجتمع، فالهندسة العمرانية والنفعية والجمالية هي المواصفات التي كنا نريد تحققها عند الاختيار، وبتوصية من الصديق أحمد الجشي تم اختيار هذا المنزل، الذي تنطبق عليه المواصفات المذكورة، فهو نموذج مميز نستطيع أن نقدمه كمعلم تراثي لمنطقتنا”.

وأوضح أنه اختار اسم “ذاكرة الأرض” لفيلمه القصير لأنه وجد فيه ما يشمل الزمان المكان: “فالزمن المتعاقب مرتبط بالأرض ونحن منها نبنيها ونتعايش فيها، فيرتبط ذلك بين ماضينا وحاضرنا على تلك الأرض والتي تسعه ذاكرتنا بكل حواسنا”.

ووصف علاقته بالتراث قائلًا: “حقيقةً أنا مولع بالتراث منذ طفولتي التي كانت بين تلك الجدران والزوايا، فيدي تلامس تلك الجدران التي يتناثر منها الملح ولون الماضي، فكنت أتجول بين الأحياء والممرات والبيوت العالية والنوافذ المطلة، وما زلت أستحضر تلك المشاهد من ذاكرتي، وما يميز هذه التجربة عن سابقتها أنها محطة من محطاتها مع إضافة مادة بسيطة مشروحة تصاحب المشهد”.

حفيد الجشي يكتب تاريخه
احتضن الفيلم تجربة جديدة لأحمد الجشي، من خلال التعليق وسرد المادة التاريخية، قدم خلالها معظم مسميات البيت القطيفي.

وكتب “الجشي” تاريخ المنزل بنفسه لتقديمه كمادة مكتملة، وحول تلك التجربة قال: “كتبت تاريخ المنزل بحكم أنه يعود لجدي الملا عبد المهدي بن الشيخ محمد علي بن أحمد الجشي، رحمه الله، وقد عشت فيه شخصيًا ما يقارب عشرين عامًا، واعتمدت خلال كتابتي على الوثائق الموجودة والمتعلقة بملكية البيت، وقد استغرق البحث في هذه الجزئية قرابة الأسبوعين”.

وذكر أنه تعرف على المسميات القديمة لزوايا بناء المنزل، من خلال متابعته وبحثه الدائم عن العمارة والحياة الاجتماعية في منطقة القطيف، مشيرًا إلى أنه ولم يواجه أي صعوبة في حفظها، فطالما ترددت تلك المسميات على مسامعه منذ الصغر.

خطوة أولى نحو الماضي
يقول “الجشي”: “عمل ذاكرة الأرض هو بمثابة الانطلاقة، وبإذن الله يكون لنا عمل جديد مميز لتوثيق المنطقة أو بعض الجوانب التاريخية”، مضيفًا: “حفظ التراث واجب إنساني والتوثيق أمر ضروري لنقل المعلومة وجعلها متاحة للجميع، ولطالما زخرت منطقتنا في الفنون المعمارية والمهن المتنوعة والحياة الاجتماعية ذات الطابع المميز”.

صعوبات لا تذكر
كأي عمل لا يمكنه أن يرى النور دون تمخضات عدة، إلا أن تلك التمخضات تختلف صعوبتها من شخص لآخر، وحول الصعوبات التي واجهت أبناء “الجشي”، قال علي: “تصوير البيوت التراثية ليس به صعوبات تذكر، ولكن إذا كانت مهجورة وبدون صيانة وترميم تتأثر بعوامل الزمن في بعض الأجزاء؛ من ضعف الأعمدة أو سقوط الأسقف، فالحركة داخل البيت تحتاج حذرًا”.

وأكد كلامه “أحمد”، حيث قال: “لم تكن هناك صعوبات في جمع المادة، ولكن كانت التجربة الأولى في الوقوف أمام الكاميرا والتعامل معها”.

وأضاف: “عمر هذا البيت يقارب الـ400 عام، وبقي مهجورًا بعد وفاة جدي رحمه الله بسنوات قليلة، ونشب فيه حريق عدة مرات، مما أدى إلى تلف خشب الأسقف وانهيارها في بعض الأجزاء من البيت؛ ما جعل بعض الصعوبة في التحرك والانتقال بين الغرف والطوابق”.

تراث بلغة الإشارة
استعان “الجشيان” بمترجم لغة الإشارة فؤاد الحمود لترجمة المادة المقدمة في الفيلم بتلك اللغة، وحول مشاركته قال: “الصم هم جزء من المجتمع القطيفي، وحري بنا أن نظهر لهم الحضارة الممتدة لمنطقتهم، حيث ستزيدهم استشعارًا بأهمية القطيف كمنطقة عريقة، مرت عليها قرون وقبائل وحضارات، لذا أكبر بالأخوين الجشيين لفتتهم الإنسانية لفئة لها وجودها في المجتمع من جهة عن طريق الترجمة لهم بلغتهم ليستشعروا أنهم ليسوا مهمشين وبعيدين عما يحدث من حراك حضاري للقطيف”.

وعن ترجمة المفردات القديمة في فيلم “ذاكرة الأرض”، أوضح: “لغة الإشارة العربية للصم تعتمد على الوصف بالدرجة الأولى، فالمسميات لا يعار لها اهتمام من جهة فتطور اللغة لدى الناطقين لا تؤثر على المفهوم، ومع هذا تقريبًا للفكرة تم دمج نوعين من الترجمة للإخوة الصم، الأولى لبعض المسميات باعتبارها غير مألوفة الشكل فتم كتابتها بالأحرف الأبجدية الأصبعية، ثم تمت ترجمتها، ومن باب المثال لا الحصر الساباط والجندود وغيرهما”.

جنود الصورة المكتملة
في ختام حديثنا مع الفنان علي الجشي، اكتشفنا أنه يعتبر فيلم “ذاكرة الأرض” كلوحة مركبة، لم تكتمل تفاصيل قطعها بيده وحده ولا حتى بمساعدة أحمد الجشي وفؤاد الحمود فقط، فقد أشار إلى شكره عددًا ممن ساهموا في اكتمال الصورة، وهم؛ الفنان عبد العظيم شلي وحسين التركي وابنه مصطفى وأخوه عقيل.


error: المحتوي محمي