شجرةٌ لون ثمرها يتشكل مثل لون وجنة أبي الذي كان يزرعها ويعتني بها ويكرمها، تلوحه الشمس في لون الأرض تارة ويَجليه ويصقله ظلالها تارةً أخرى. وهي أيضًا لم تشح عليه ولا على جيله من الفلاحين الذين على ثمرتها عاشوا في – تقريبًا – كل قطر من بلاد العرب، ولم تكن جزيرة تاروت وقرى القطيف ومدنها سوى واحة تسكن فيها هذه الشجرة.
قضيتُ كل سنوات الصبا متنقلًا من بستانٍ لآخر ولم تمر سنة من سنواتِ الطفولة لم نكن نسكن ونعمر بستانًا فيه من الأشجار الكثير مما جادت به أرض القطيف، إلا أن هذه الشجرة كانت معلمًا وغرضًا لنا من السكنى في كل هذه البساتين.
وها أنا ذا انتظرت ستينَ سنةً كاملة ثم عدت لأصلي، وصار عندي منها وحيدات وأنتظر نضج ثمرها الذي بدأت تغازله الصفرة وتحل شيئًا فشيئًا مكان الخضرة.
أقرأ في صفرته “وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا”، فأذكر عاصفةَ مريم حين استقر عيسى في رحمها وابتعدت عن بيتِ المقدس فيروي علي (ع) عن النّبي (ص): “ليكن أول ما تأكل النفساء الرطب، فإِن الله عزَّ وجلّ قال لمريم (ع): (وهزي إِليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً)”.
كل الذكريات والعيش المشترك لم يشفع لتلك الشجرة في واحةِ القطيف أن تحظى بالكرامة وتتجدد، والآن في جولاتي أجد منظرين أحدهما يبعث على الأسى والآخر على نوعٍ من الطمأنينة: كبرت نخيلات البساتين القديمة فأهملها أصحابها لتكبر وتفعل بها الرياح والآفات ما تشاء فالكثير منها جذوع بلا قمم تنتظر الموت. والآخر في رغبة الشباب في زرعها ولو في منازلهم والمساحات الصغيرة التي يملكونها.
على كل حال: أكرموها قدر ما استطعتم ففيها ذكريات مريم، ومنها أكل آباؤكم، والكثير منكم. هي كانت من خلفكم والبحر من أمامكم أَمداكما بالطاقة والحياة في سنوات البؤس والشقاء. إليها استراح جدكم في حرِّ الظهيرة فلم يكن حينها الكهرباء وأدوات تكييف الهواء. أغنت الكثيرَ من العوائل والكسبة بالعمل فيها في فصل الصيف.
شجرة اعتنى بها الدين والطب الحديث حتى أن بعض الرّوايات تؤكّد على أن أفضل غذاء ودواء للحامل هو الرطب: “ما تأكل الحامل من شيء ولا تتداوى به أفضل من الرطب”، وقد ذكرها القرآنُ وسماها دون تورية في أكثر من عشرينَ آية من سورٍ مختلفة.
الذين هم في مثل سني يتذكرون كيف كانت النخلة هي الحياة. أكلنا رطبها في الصيف وتمرها في الشتاء. وبنينا دورنا من جريدها وسيقانها. وصنعنا سِلالنا وسفرة أكلنا من خوصها. وشققنا قواربَ الصيد من جذوعها، فكيف لا تستحق التقدير والإكرام؟