تنبؤات درامية أم سينما متواطئة.. 33

يحمل فيلم “القيامة الآن” رسائل مزدوجة كما الرواية “قلب الظلام”، التي اعتمد على فكرتها ومضمونها بتصرف حر من قبل المخرج وكاتب السيناريو، مستعينين أيضاً بمؤلف كتاب “المراسلات” وهي مذكرات الحرب الفيتنامية للكاتب الأمريكي “مايكل هير” الذي كان مراسلاً لمجلتين؛ “فيتنام” و”نيويورك تايمز”، خلال أعوام (1967-1969)، والذي وصفه الروائي الأمريكي “جون لوكاريه” بأنه “أفضل كتاب قرأته عن رجال الحرب في عصرنا”.

هذه الخلطة المبنية بين واقع ومتخيل أعطت للفيلم زخماً وبعداً أعمق، ومختلفاً عن كل أفلام الحروب، فرواية “قلب الظلام” لجوزيف كونراد، سطورها تؤازر الاستعمار وأخرى بالضد، ودراما فيلم “القيامة الآن” تستعرض سطوة الحرب وعنفوانها وتنتقدها بعبارات لاذعة، وتظل الرؤية العامة للفيلم تمجيد للسيادة الأمريكية وتأكيد على متانة قوتها الضاربة وإبراز بسالة الجنود، وإن ظفر المشاهد ببعض اللقطات الناقدة للحرب لكنها ذر الرماد في العيون.

وحسب مخرج العمل “فرانسيس كوبولا” الذي يبرر رؤيته المزدوجة “يمكن اعتبار الفيلم مناهض للحرب، لكنه أكثر كذبة حقيقية أن الثقافة يمكن تكذب حول ما يحدث بالفعل في الحرب، إن الناس يتعرضون للوحشية والقتل والتعذيب، وعرضت بطريقة ما هذا العمل على أنه اخلاقي هو ما يرعبني ويديم إمكانية الحرب”.

إن من تقنيات الفن السينمائي الخدع البصرية، وهي أمور فنية تثري العمل وينتهجها كل مخرج، لكن حين يعمد لتغيير الحقائق وتزييف الواقع أي خداع يقوم به؟ قد يكون المخرج ليس مؤمناً بذلك وهو محكوم بإرادة الجهة المنتجة وهنا مربط الفرس، ومن هي يا ترى؟ إنها شركات إنتاج فنية بعضها تابع للاستخبارات الأمريكية، كل يلعب لعبته وبريق المال سيد الموقف، لكن الشركة المنتجة لفيلم “القيامة الآن” هي “أمريكا زوتريب” أو “استوديوهات زوتريب”، والقائم عليها هو ذاته مخرج العمل “فرانسيس كوبولا”! إذا هي شركة خاصة وكان بالإمكان أن يكون بعيداً عن إملاءات أي جهة منتجة، فتبريره المزدوج عن فيلمه ليس مقنعاً.

لكن لو عمل المخرج دون السائد لأفلام الحرب الأمريكية الموجهة والمؤدلجة لما استطاع تسويق عمله ولما حصل القبول عليه رسمياً ونخبوياً، والأهم حسابات شباك التذاكر فوق كل اعتبار.

لقد أطلق النقاد على فيلم “القيامة الآن” (تحفة فنية من عصر هوليوود الجديدة)، والمخرج ساهم في أقوى الأفلام الهوليوودية مثل الفيلم الشهير “العراب” و”غاتسبي العظيم “و”صانع المطر” وغيرها من الأفلام التي شكلت فواصل في عالم السينما.

كوبولا يعتبر شخصية مركزية في حركة صناعة أفلام هوليوود الجديدة في الستينات والسبعينات، ويعتبر على نطاق واسع واحد من أعظم صانعي الأفلام في كل العصور، إذاً هو أحد صناع هوليوود المتميزين والمخلص لسياستها ونهجها المخفي والمعلن.

كم شوه التاريخ بصرة من فضة وذهب، وتلاعبت به الأمزجة والأهواء، إذا كانت الأحداث المعاصرة تم التلاعب بها وعلى مرأى ومسمع من الجميع، فما بالنا بالتاريخ القديم الذي عاثت فيه تلابنة السلاطين، ومشري الذمم، والأنكى ليس بريق المال من يحدد مداد كتابة التاريخ، بل السيف المسلط على الرقاب، فيحرف الكلم عن مواضعه، وعلى أثر ذلك كم تشرذمت أمم، وتحاربت شعوب وقبائل، والناطقون بلغة الضاد لم يسلموا من الهوى وأوغلوا قدحاً في قلب مواقع النجوم، وأسرفوا في هتك أوراق المتون.

هناك طائفة من الأفلام المؤدلجة القائمة على الزيف والخداع وبجملة مصرية مشهورة “المخرج عاوز كده”، ليس دائماً بل الجهة التي تقف خلف المخرج هي التي تريد وتملي عليه وصاياها بأهداف ظاهرية ومبطنة.

وهنا ليس التمثيل وحده في الميدان، كثيراً ما يتم التلاعب بالوقائع باسم الدين والرؤية المسيسة، هذا لا ينفي أن السينما تترجم انعكاسات الحياة وأن أعمالاً مقدرة ومتفق على صدقها وحسن توجهها، لكن كثيراً منها حافلة بالمغالطات والادعاء، وخصوصاً أفلام الحروب، يقول وودي آلن: “إن الحياة شديدة العبثية، وإن الأفلام تشتتنا عن حقائق الحياة القاسية” هل الدراما تظللنا؟ سؤال حائر وليس بحائر في ظل اعتبار الأفلام واجهة وطنية وسلاحاً قومياً، كما الحال في الدراما الهوليوودية وغيرها.

لقد اعتبر نقاد السينما فيلم “القيامة الآن” من أصدق وأفضل وأروع أفلام هوليوود عن حرب فيتنام، طبعاً من وجهة نظر أمريكية وأوروبية وأيضاً أشبه بملحمة حربية.

إن براعة الفيلم المليء بالدهشة ومتعة المشاهدة هو تلميع لصورة الحرب وإبراز قدرات الجندي الأمريكي الخارقة التي لا تقهر ولا تذل، وأدل على ذلك تم عرض الفيلم داخل أروقة البيت الأبيض سنة 1979، بحضور النخبة السياسية يتقدمهم الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر”، وقد أعجب بالفيلم أيما إعجاب، مثنياً على طاقم العمل وروعة الإخراج!

ولحظوة الفيلم عند الجيش الأمريكي كان يعرض أمام الجنود المتوجهين لغزو العراق لبث روح الحماس لديهم ووضعهم في أجواء الحرب!

إبداع فن يبهرنا وحدود رؤيانا مرايا الإعجاب ضمن حدود الإطار، وخلف المرايا انعكاسات ومقاصد لا نراها.


error: المحتوي محمي