في كلِّ مرة يرحل إنسان من الدنيا تترجل معه الذكريات. وها هو اليوم يرحل الحاج الخطيب محمد علي مكي مسيري “أبو جعفر”. فلطالما صحبناه وصوته الشجي وطرفتَه الحاضرة بين جملة وأخرى.
مع فارق العمر بيني وبينه إذ هو من جيل سبقني، إلا أنني لا أزال أتذكر أيام شهر رمضان قبل نحو خمسين سنة التي أصطحبت فيها أخي الأستاذ الخطيب أحمد الوحيد في جلساتهم في بيت المرحوم حتى ساعات الفجر الأولى. كان بيتهم حينها يبعد مسافةً أبعد من البيت الحالي وكان السهر حتى الصبح يصيبني بالنعاس فأغفو على أصوات الحاضرين ومنهم أخي والخطيب أحمد العسكري وغيرهم ممن كان يحضر المجلس. فكانوا يتسامرون ويحفظون الشعر ويقرأون الكتب بطبيعة مهنتهم.
كان أشد ما أخشاه في تلك الأيام ظلمة الطريق بين بيتنا وبيت المرحوم – بإذن الله – في سويعات الفجر فلم يكن كثير من الناس في جزيرة تاروت يسهرون حتى الفجر في تلك الأيام، ولم تكن طرقاتها تشهد كثيرًا من حركة المارة والسيارات.
كنت حينها طفلًا صغيرًا وكان من السهل أن أكونَ المرسال بين المجلس والدار في طلب الشاي والقهوة والماء وأمور الضيافة. وكانت المرحومة أم جعفر تعاملني مثل أمي، فأنا بعد تلك السنوات من الزمن لا تزال ذاكرتي تختزن رقة صوتها وحنانها. فقد كانت تبقى ساهرة طوال الساعات مواكبة الجلسة.
ومنذ كنت صغيرًا كنت أرتاح لصوته الشجي المتموج فهو من الطبقة القديمة التي تمتاز بالحَافظة القوية التي تحفظ الشعر القديم وتلقيه على الناس في ألحانٍ عذبة. وكان حديثه أيضًا طيبا ومفيداً.
كانت رحلة الحج معه عام ١٩٨٥م مليئةً بالذكريات في طولها وعرضها فهو كان من المؤسسين الأوائل لحملات الحج والعمرة التقليدية قبل أن تحل مكانها الحملات الحديثة والتعاونية. وكانت رحلة الحج في تلك السنوات تتطلب جهداً ومشقة وصبراً من الحاج والمتكفل يفوق ما عليه الجهد المطلوب الآن.
اليوم في رحيل المرحوم أبي جعفر تكاد تنتهي صفحة الخطباء القدامى في جزيرة تاروت، فهو كان من خيرتهم ومن أساتذتهم. كان جاراً وصديقاً لنا منذ نعومة أظفارنا. ودون شك سوف يفتقده بلده الأول القطيف وتاروت، والأحساء التي قرأ فيها طويلاً فله الرحمة والخلود ولمن بعده من الجيل الحاضر من الخطباء طول العمر والنجاح.