هل يصنع الخطيب الحسيني شاعراً؟!

اليوم مع وفاة الملا محمد مسيري رحمه الله سأدع علياً النحوي الطفل يكتب مرثيته، معترفاً أنني أحد الأطفال الذين وفقوا للجلوس تحت منبره، وتسجيل مجالسه في أشرطة الكاسيت، ومن ثم الاستماع للقصائد الفصيحة والشعبية التي يقرأها، ثم حفظها وترديدها بطريقته، وما زلت لليوم أقرأها مترنحاً.

يا سادة ملا محمد مسيري لم يكن صوتاً عابراً أبداً، ولا مجرد ناعٍ، إنما كان مدرسة.

أقولها وكلي ثقة بذلك، وبحاستي الموسيقية، وذلك ما كنت أتداوله كثيراً، خاصة مع صديقي السيد محمد المكي، الذي كان يقول: لا ألومك في حب مسيري!!

ثم نقرأ معاً بعض تراتيله.

بعيداً عن حسن اختيار مسيري للقصائد الفخمة للسيد حيدر الحلي أو السيد جعفر الحلي أو السيد هاشم الكعبي أو ملا عطية أو بن فايز، فإنه يمتلك حنجرة تغزو المتلقي في أقصى مشاعره.

أما بحّة صوته فكثيراً ما كانت تقتحم تلافيف عقلي وأمشاج قلبي لتفعل فعلاً عجائبياً غرائبياً بي، وهنا لا بد من الإشارة إلى ما في مأساة كربلاء من مدد للقارئ الحسيني الاستثنائي.

محمد مسيري لا يمكن العثور على سر أثره الطاغي على المتلقي سوى أنه ذو قدرة على مسرحة المشهد الشعري، وتحويله لمشهد سينمائي ذي موسيقى وضوء ومؤثرات حسية ووجدانية.

اللحظة أعترف أن محمد مسيري بخاصة صنع مني شاعراً، كما أعترف أنني أحبه كثيراً، ولا أشك أن جماهير كثيرة تشاطرني وتنافسني في حبه.

مسيري أيقونة يجب ألا تغادر ذاكرتنا، بل يجب أن تكون محط دراسة، وهنا أشير لملا طاهر البحراني “رحمه الله” الذي يستحق الاهتمام ذاته.

أعود لأيام الطفولة لأصور لكم يا سادة كيف كنت أحلق بكلي إلى منبره، لأرصد شفاهه وملامحه وحركة يديه، وحلوله في النص الشعري وكأنه سرب ملائكة تهبط من السماء.

صدقوني لم ينفك هذا الرجل من ذاكرتي قط رغم سيل التحولات الثقافية والفكرية التي مررت بها، وكثيراً ما كنت أستمع لمقاطعه المسجلة، وأدعو الأصدقاء للإصغاء إلى السر العجيب فيما ينهمر من سماواته.

من آنذاك نمت في أعماقي البذرة الأولى للشعر، البذرة التي كونها ملا أحمد الطويل رحمه الله، وتفتقت وترعرعت بفعل سحر مسيري.

ترى هل يستطيع فعل كل ذلك خطيب حسيني؟!

نعم يستطيع، وهنا أزعم أن المنبر الحسيني هو الصانع الأول لكل شاعر تربع لدى أعواده، فكيف إذا كان القارئ للنص ملا مسيري أو ملا طاهر البحراني أو سيد عمران السادة!!

مسيري مؤسس رئيس لعلي النحوي الشاعر، وكثيراً ما كنت أستعير منه ريشاً لأجنحة طائري الشعري.

أدري أنني لن أستطيع وصف تأثير هذا الرجل بي، لكن فقده ترك أثراً بالغاً بي، وأدري أن هذا الأثر لن ينمحي أبداً، وأعترف أنني بكيته كثيراً وكأن هناك شرياناً يربطني به قد انقطع!!

بقي أن أذكر لكم أنني كنت حينما أعود للبيت أقرأ لوالدتي السيدة رحمها الله ما علق في ذهني من أبيات وتكملها لي وأحياناً أكتبها منها، ثم إنها في الليلة التالية تهيئني للذهاب إلى مدرسته.

ماذا بعد؟
إننا اليوم بحاجة ماسة لأمثال مسيري الذي أعتقد أنه يمتلك مصداقية عليا في التفاعل مع المأساة الحسينية خاصة، كما أنه يمتلك قدرة فنية عالية، وطاقة إبداعية من الصعب أن تتكرر، لذا كان لفقده وقع على متذوق مثلي.

أخيراً لدي تساؤل يقول: هل يمكن أن نقدم ما أنجزه نموذج كمسيري وأمثاله كفن خاص بالمنطقة دون الشعور بأنه خصوصية لطائفة ما، بل هو فن ضمن منظومة من الفنون الشعبية التي تمتد عبر طول مملكتنا الغالية وعرضها؟!

أقول ذلك ما يجب أن يكون.

وأما على مستوى المنطقة، فيجب أن تدرس طريقة هؤلاء وتكتب حولها المقالات من المتخصصين في المقامات والأداء المسرحي، خاصة لو عرفنا أن كتب الأدب تقرر أن أولى بذرات المسرح العربي كانت مشاهد فاجعة كربلاء الممسرحة.

مسيري أكبر وأكثر مما كتبت، ولا أشك أن هناك في سيرته ما يؤكد كلامي، وما يكشف عن جوانب أخرى، أرجو أن يجليها القريبون منه.


error: المحتوي محمي