يتسابق مطورو ألعاب الفيديو في استدرار الأرباح الهائلة ضمن مشروعاتهم الاستثمارية، التي تكرس مقولة حديثة في معجم الرأسمال العالمي: إنّ الإنسان كائن اقتصادي، بمعنى أنّ هذا الكائن البشري هو مورد ماديّ للشركات الكبرى التي تتقدم في توظيفها كل الأدوات التي يمكن أن تسهم في الوصول إلى ورقة موازنة فائض الربحية في أرصدتهم، حتى وإن كان على حساب القيم الإيجابية للإنسان وثقافته أو للمجتمعات وحياتها.
وقبل نحو أسبوع تناقل المغردون بعض المقاطع الحديثة للعبة «ببجي» تظهر في محتواها بعض الأوامر التي تطلب من اللاعب أن يمارس حركة تشابه حركة الركوع لدى المسلمين في صلاتهم.
هذا الجزء أعاد القلق الذي ظهر قبل أكثر من عام، حين صارت لعبة «ببجي» تتوسع بين يدي الناشئة واليافعين وكذلك الشباب، هذا الخوف الذي يشكل في أغلبه تعبيرا عائليا رافضا لتعلق أبنائهم بلعبة ذات محتوى، أجمعت بلدان كثيرة على تصنيفه بالخطر، بعد أن ظهرت عواقب وخيمة في أكثر من بلد، إلى حدّ أوصل بعض هواة هذه اللعبة إلى مرحلة الموت، وهو ذات الحال الذي ارتبط بلعبة الحوت الأزرق في مرحلة سبقت ظهور اللعبة اللاحقة، يستحق أن نجهد أنفسنا في امتلاك القدرة على فهمه وإدراك أبعاده.
وإذا كان تحذير بعض الكتابات الجادّة التي تحاول دراسة مثل هذه الظواهر، التي يتم خلالها اصطياد الفئات العمرية المبكرة في عوائلنا ومجتمعاتنا، لم يجد أذنا مصغية لدى الكثيرين الذين حتى وإن أصابهم بعض القلق، نجدهم لا يستطيعون مقاومة طلبات أبنائهم في هذا الشأن، تحت حجج وعناوين إقناعية خادعة، مثل: الترويح واكتساب اللغة وعقد صداقات مع آخرين.
وبهذا تضعف القناعات العائلية والاجتماعية، ويبقى المزاج العائلي ساعيا في تكريس هذه الحالات أكثر من محاولة ضبطها وتوجيهها وإدارتها.
وهنا نحتمل نشوء سؤال أساسي يقارن بين حالتين من حالات الوقاية والعلاج، الحالة الأولى تتمثل في فلسفة المنع، أي منع اللعبة مطلقا، أمّا الحالة الأخرى تستند إلى فلسفة المناعة.
وبين المنع الذي قد يكون جزئيا أو يكون شاملا، وبين المناعة التي تعني تكوين حالة تحصينية على مستوى الوعي والتفكير وكذلك من جهة القيم والسلوك، يحار الواقع العائلي في اتخاذ القرار المناسب لإدارة وتنظيم الجو الترويحي في حياة أبنائهم.
ولعلّ من أهم أسباب هذه الحيرة هي ضآلة المعرفة التربوية المرتبطة بهذه الأحوال الحديثة في حياة مجتمعاتنا، إضافة إلى تساهل ناشئ عن إفراط في جانب العاطفة الأبوية، وغياب في ممارسة تربوية قائمة على التوازن، تبعا لسلّم المنافع والمصالح النفسية والتربوية.
وربما تتفقون معي حول عدم جدوى الممنوع المطلق، ما لم تتوفر البدائل أو البرامج التي تستطيع إخراج هؤلاء الأبناء من حالة اعتزال وتغلغل الميل إلى ألعاب الفيديو الخطرة.
كل ممنوع مرغوب، ليس قولا حالما، وإنما واقع، بحجم مساحة فضائه الافتراضي في هذا العصر، حيث يمكن فيه الوصول إلى أي لعبة ممنوعة، بمسرحه الواسع ومضمار انشغاله على طريقة 7/24.
إن مفهوم الاختراق الثقافي، أو الاستلاب الثقافي أو غيره، تأسس على اعتبار وجود الثقافة القوية الوافدة والثقافة الأم، لكنّ مع التركيز على هذه العناوين، تغيب مفاهيم ضرورية مثل مفهوم التبادل الثقافي، وهذا لا يمكن أن يكون قائما من دون تنمية أدواتنا الثقافية وتعزيز مقدراتها وإمكانياتها.
إن تهيئة الأرضية الثقافية الخصبة داخل مجتمع، يضمن امتلاك الحالة الثقافية المتميزة والقابلة للتبادل والتعارف مع الثقافات الأخرى، مهما تنوعت حمولاتها وأدواتها.
المصدر: آراء سعودية