في فترة مراهقتي كنت أحيانًا ما أشعر بغِيرةً جنونية، إذ إنني كنت أرى بعض الأمور لدي الغير، ولا أجدها عندي، وكانت من أهمها الصحة، فغالب الأوقات كنت أرمق من هم في سني، من الأصدقاء والأقرباء، وهم يلعبون ويركضون وغيرها من أمور، التي ليست مسموحة لي بل ممنوعة قطعًا عليّ.
استمر هذا الأمر لغَايةَ ما قبل خَلوتي، وأنا أضع المقارنات والتساؤلات مثل: لماذا؟ والجامعة؟ والسيارة؟ أنا أنتظر يا ربي.
ولكن استنبطت أن كل ذلك لا علاقة له بشيء من هذا، لا بالسن، لا بالمال، ولا حتى بالصحة والحظ، ولكنني “سائر” وفق خطة، أنا أطلبها والله يفصلها حسب ما يراهُ أنسب، وكأنه طبيب بالنسبةٍ لي، فهو يعطيني الدواء الذي أحتاجه وليس الدواء الذي أريده.
لذا فأنا لست متأخرًا في ارتياد الجامعة، أو الحصول على سيارة، بل حتى الزواج والإنجاب في المستقبل.
ففلان من الناس يتخرج في الجامعة بعمر 22 سنة وينتظر 5 سنوات ليحصل على وظيفة، وآخر يتخرج بعمر 27 سنة وكان حلمه الوظيفي في انتظاره.
وفلانة تتزوج بعمر 25 وتنجب طفلًا بعد 10 سنوات، والأخرى تتزوج بعمر 30 وتنجب بعد سنة واحدة.
ولكن في نهاية الأمر أنني سائر وفق “توقيتي فقط”، فأحد الأصدقاء أو الزملاء بل وحتى من هم أكبر مني سنًا قد “يصور لي” أنهم متقدمون عليَّ أو أنهم متأخرون عني، فحالًا ما يروني يبادرون ويبدأون بسؤالي عن مهنتي! ودراستي! وهاتفي! وسيارتي! ومظهري! لا وبل حتى مع علاقتي مع الله!
كما لو أن الحياة عبارة عن قائمة مشتريات، فهذه الأمور لا أحتاج لتبريرها للناس، فيجب أن أعلم أنني لست متقدمًا على أحد وفي نفس الوقت لست متأخرًا، فأنا أسير على “توقيتي” الذي وقته الله لي، فأنا بطبيعتي وكالبقية البشر كان منظوري قصير المدى، فكنت عندما أرى شخصًا يعيش في خير ونعيم أقول: هذا كرم الله، وعندما أرى شخصًا آخر في شر وضيق أقول: هذا ابتلاء من الله، وكأننا في محكمة كلً منا قاضً على الناس، وعلى مصيرهم، يصنفهم حسب ما يراه.
ولكن مع الخلوة تغيرت نظرتي لأبعد من ذلك، فالغنى بشتى أنواعه ابتلاء كما أن الفقر بأنواعه ابتلاء، ولكن باختلاف المنهج وطريقة الابتلاء، فهل الفقير سيصبر؟ وهل سيبحث عن الرزق بالحلال؟ وهل سيبتعد عن اللصوصية؟ وأما الغني هل سيشكر؟ وهل سيتواضع؟ وهل سيساعد الناس؟
وفي غالب الأحيان يكون امتحانًا واختبار الغنى أصعب من الفقر؛ فالغني جميع أبواب الذنوب مفتوحة له مثل: الإسراف، والسفر، والنساء، والبخل، والقمار، وغيرها من الأمور التي إذا نظرنا لها نجدها منطقية.
حقًا إنني تذمرت وتضايقت بين الحين والآخر على توقيتي الخاص، وأتساءل عن الأسباب في منع حدوث بعض الأشياء واستحالة بعض الأمور؛ ولكن الجملة “أنني سائر وفق توقيتي”، فتحت في ذهني سؤالين لطالما أردت أن أبحث وأتعمق فيهما وهما: ما هي حكمة الله في هذه الحياة؟ وهل نحن مخيرون أم مسيرون؟
تذكرت أنه دائمًا ما كان العم -وهو شيخ دين- يحث على التدبر في سور وآيات القرآن الكريم، فسألت الله أن يجيبني خلال خلوتي عن تساؤلاتي، ولكن لم يصل الجواب إلا حين وصولي إلى الجزء الـ١٥ وتحديدًا في سورة الكهف بقصة نبي الله موسى والخضر -عليهما السلام، فكان الخضر يمثل موضوع “حكمة الله” فقد كان يقوم بأمور إلاهية لم يفقها موسى إلا حين عرف الحكمة والسبب منها، وكأنه أنا حين أبحث عن إجابات لهذه التساؤلات، فوصَفَ الخضر في بداية القصة في قوله: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}، يفهمني ان حكمة الله وقَدَره دائمًا باطنهما رحمة؛ فحتى لو لم أفهم “توقيتي” الذي وضعه الله لي إلا أنه في نهاية الأمر شيء رحيم بي، كما كان مع القارب، وقتل الطفل، وترميم الجدار، كلها كانت أمور ممكن أن نطلق عليها “ظلم”، ولكن مثل ما يقال: «إذا عرف السبب بطل العجب» ولكن في حالتي هذه لا يمكنني سوى أن أكون صابرًا؛ كخاتمة قصة موسى، متفائل بقضاء الله ومقدًرا لـ”توقيتي” الذي فصله إلي.
فـ “التوقيت” يحتاج صبرًا لتكون النهاية سعيدة، وإلا يشعر بالغيرة والأنانية لمجرد لحظات وثوانٍ، فنوح -عليه السلام- انتظر 950 سنة، ويوسف -عليه السلام- انتظر 40 سنة للقاء أبيه، وموسى -عليه السلام- انتظر 40 يومًا للقاء ربه، وغيرهم الكثير، فمن الصعب تغيير النفس المجتمع بين ليلة وضحاها فالأمر يحتاج إلى عقود طويلة من الزمن؛ وذلك يحتاج إلى صبر.
وأما جواب تساؤلي الثاني كان موجودًاا في حديث الامام الرضا -عليه السلام-: «لا جبرَ ولا تفويضَ ولكنْ أمرٌ بينَ أمرَيْنِ»، ولكني لم أفطن له إلا مؤخرًا، فمكان ولادتي، ولون بشرتي، وصحتي، هذه كلها أمور مسير فيها، وأما نجاحي في الدراسة، أو التعامل مع الناس، القرارات اليومية، جميعها مخير فيها، فيجب أن أكون شديد السعادة بمكان ولادتي، ولوني بشرتي، وصحتي، ولكن لا أن أفتخر بهم، فالفخر يكون لأشياء حققتها وأنجزتها بنفسي، وليس لمجرد أمور جاءت من عند الله وليس بيدي سلطان عليها.
فكوني ولدت مصابًا بـ “السكلر” هذا أمر مسير فيه، ولكن طريقة تعاملي معه والتزامي بالأدوية هذا أمر مخير فيه، ولا يجوز أن ألوم القدر على حالي الآن، فالأمر في طريقة تفاعلي معه، والخلاصة (مكس مخيرات ومسيرات) واحتياج إلى صبر على حكمة الله، والرضا بـ “التوقيت” الذي فصله لي بما يناسبني.
وختام حديثي أقول:
إن خلاصة موضوع الأسبوع الثاني هو عدم الاهتمام بالحياة بشكل كبير لدرجة أن أفسد يومي الجديد، بالأمس السيئ، ولا الغد المجهول، وإن الحياة تحتاج أملًا واتكالًا على الله وثقة في عطاياه، فعندما أثق في الله فلا فرق إن كنت في بئر كنعان أو سجن هارون أو بطن الحوت فهو دائمًا معي.