مائدة أمي والدهشة 8

تقول أمي: يا ولدي إذا لديك أهداف، تلامس القمم الشماء، عليك تحمل الألم، فإن الألم، إذا عشته بصبر جميل، ستصل إلى مبتغاك، وعليك تقدير ذاتك، وتقدير ما تمارسه، ليكون غاليًا، فإن عشقته، سيكون كبيرًا في ذاتك وحياتك، مهما بلغت من العمر، واشتعل رأسك شيبًا، قالتها أمي بلغتها العامية وصغتها بطريقة اللغة العربية الفصحى لأني أعلم لن تزعل أمي.

لكل فرد في الحياة أهدافه على المستوى الذاتي، أكانت، كلون الماء والعشب، أو ما عداها، والجوهر في هذه الأهداف، أن يعشقها الإنسان، فإنه حين يعشقها، يستأنس بها، يتلذذ بألم المسافات، ليجعلها سيمفونية، يتراقص على وتر نبضاتها، سعيًا إلى تحقيقها.

على سبيل المثال لا الحصر، فإن ذوي الاحتياجات الخاصة “ذوي الإعاقة”، كالمكفوفين، فإنهم، كغيرهم من الأسوياء، لهم طموحات وأمنيات، أحلام، تحتضنها أهداف، يسعون إلى تحقيقها، لهذا فإنهم لا يجدون عائقًا فعليًا من الاستفادة ممن التعلم، بوجود جهاز “برايل”، الذي يتيح لهم التواصل مع الآخرين عبر العالم الافتراضي، وتصفح “السوشيال ميديا” والتعامل معها، ينهلون المعرفة والثقافة.

كانت لي تجربة بسيطة في عالم المكفوفين، في كتابة بعض المواد الإعلامية، وجدتني أمام الأنفس الكبيرة، التي تمتلك الإرادة، والنظرة الإيجابية للحياة، اللهفة إلى التعلم والمعرفة، الإبداع في تنمية مواهبهم، كالأعمال اليدوية الحرفية، وغيرها الكثير، وجدتهم، يحولون سلبية ما يشعرون به إلى إيجابية، يوغلون في الأمل، شرفاتهم مشرعة آفاقها، وثمة من الأسماء منهم، برزوا في الساحة، وفيهم من لم تصل الأقلام والكلمات لهم، ليبزغوا بين حدائق عيني القارئ.

الطالب السيد حسين علوي أمين الشبركة نموذج من “ذوي الإعاقة” فئة الصم، نال درجة الماجستير في إدارة الأعمال بامتياز من جامعة لامار في ولاية تكساس.

هذا النموذج، لم تكن المسافة بيني وبينه قريبة، من نافذة لقاء شخصي، لأتعرف عليه أكثر، عرفته من خلال ما كتب عنه في الصحافة، وما كتبته عنه، دخلت عالمه، وفي كل مادة صحفية كتبتها عنه، وجدتني أبحر، متأملًا في هذه الشخصية، وكيف لها أن صهرت المعاناة، والآلام، الغربة، التي عاشها منذ نعومة أظافره، وسنين ربيعه، لم تتجاوز الأربع سنوات، ليتعلم في جمهورية مصر العربية، لدراسة لغة الإشارة “لغة الشفاه”، ويبتعد عن أحضان والديه، عن دفء عينيهم، ونبضات قلوبهم، عن كأس حليب في الصباح البكر، عن لعبه، مع إخوته، وأخته، عن اللهو في منزلهم، الركض هنا، ومشاهدة الأفلام الكرتونية هناك، عن وسادته، التي ابتعد عنها.

في مصر جلس في مدرسة أهلية هناك، فجأة لقى نفسه وحيدًا بلا أسرة ولا أهل، اشترى والده الكابتن طيار -متقاعد – السيد علوي الشبركة، شقة، وكان يزوره -ابنه- باستمرار، ليأخذه السائق المصري إلى منزله في الإجازة، ويعتني به في أسرته.

مرت الأيام، تعدوها الأيام، كانت أحلامه، ترشفه الصبر الجميل، ليتخرج في الجامعة بامتياز، مع مرتبة الشرف، ولا تزال طموحاته تأخذه إلى شواطئ تحقيقها.

يقول أحد الحكماء، حين سؤاله عن ماهية الحكمة، أجاب: الحكيم من جمع عقول الناس في عقله.

وعطفًا على جوابه.

إن الإنسان، يحتاج إلى نموذج، نماذج حية، يستقي منها القدوة الحسنة، يتعلم من حيثيات حياتها، تفاصيها كل شيء، يمكنه أن يتعلمه.

إن الشبركة برغم كل ما أوجعه، أراه فخورًا بذاته، طموحًا أن يزداد علمًا، أن يقدم خدماته بكل اتجاه، يرى من خلال أفقه، أن يكون بلسمًا للآخرين من فئة الصم، يحتضنهم بين دفتي أحلامه، ينقش أحرفه الأمل في ذواتهم، يشد من حبل طموحاتهم.

كأني أراه، متخذًا من كلمة معلم الرياضيات السيد باكوود، الذي همس ذات يوم: إذا وجدت نفسك عاجزًا عن حل مسألة، فإياك أن تجلس، وتفكر فيها، وفي صعوبتها، بل ابدأ العمل على حلها، حتى إذا كنت لا تعرف ما تفعله، فإن مجرد العمل على المسألة، يؤدي إلى جعل الأفكار الصحيحة، تأتي إلى عقلك.

الشبركة، وغيره من المنجزين، المتألقين، نماذج حية، وقدوة حسنة لنا، نحن الذين نرتشف القهوة السمراء، ذات مساء، نبحث عن الذين يمنحوننا الأمل، والإرادة، لنداعب العشب في ذاتنا، ونبحر فيها، لنقتطف البنفسج، ونرتشف الليمون – لا بأس أن يكون ليمونًا بالنعناع – في دقائق الصيف، بين حرارة الشمس.

الرسام بابلو بيكاسو، حين بلغ من العمر ما جعله عجوزًا، كان جالسًا في أحد المقاهي في إسبانيا، مخربشًا على منديل ورقي، عليه بقع من القهوة، رسم لوحة تكعيبية انطباعية، والمنديل، وكانت امرأة جالسة على طاولة بالقرب منه، تنظر إليه في ذهول، انتهى من ارتشاف قهوته، أخذ المنديل في يده، وتوجه إلى سلة القمامة، ليرميها، خارجًا من المقهى، أوقفته المرأة، وطلبت منه أن يعطيها المنديل، الذي رسمه عليه، وتدفع ثمنه، ليجيبها: تستطيعين، ولكن ثمنه عشرون ألف دولار، تتوقف المرأة، وكل العجب والإنكار، أخذ منها مأخذه، خاطبته: ولكن لم يستغرق رسمها، أكثر من دقيقتين، أجابها: لا يا سيدة، فقد لزمني من الوقت، لأرسمها، أكثر من ستين عامًا، ثم وضع المنديل في جيبه، وخرج.

إن بيكاسو هنا، يعلمنا أن نعشق مواهبنا، أن تكون أدواتنا، إنجازاتنا، ما نتمتع به، أحلامنا، ورؤانا، الشيء الأجمل، الذي نعشقه، ليكون، كذاتنا، التي نعشق.

أمي؛ سأهمس في أذنيك همسًا، ولكن لطفك لا تبكي، أتعلمين ماذا قال الشبركة الأصم، لأمه، قال: أماه، حين أنتهي من تأليف كتابي، عيناك ستقرأ أحرفه، وقلبك، سيلامس معانيه، حينها، ستبكين، ودموعك، ستعانقه.

أمي؛ هل سيأتي يوم، وأهديك بعضًا من كتاباتي، تبصريها بقلبك، لتهطل دموعك، فإني ليس لدي قدرة على تأليف كتاب، أهديك إياه، ولكن كلي رجاء “يا أماه”، لا تبكي من أحرفي الآن، أو غدًا.


error: المحتوي محمي