عندما تجدُ مجتمعا لا نقدَ فيه فَتَفَقَدْ الفكرَ في عِدادِ الموتى؛ لحسن حظنا فإن الفكر لا يموت ما دام هناك عقل ناطق؛ ربما يمر بغيبوبة؛ ولكنه حتماً سيستيقظ على ومضة فكر من إنسان متأمل يلحظها آخر فيصنع منها نهضة تحلق فنحلق معها معرفياً وعلمياً.
كل العالم قائم على قاعدة العلة والمعلول، فلولا وجود البذرة ما اقتطفنا الثمرة، ولولا امتلكنا عيناً ما عشقنا لوناً؛ وكما أن العالم المادي حولنا محكوم بقوانين العلة والمعلول فأفعالنا وإن كانت تصدر عن إرادة حرة إلا أن جُلَّها أيضا يخضع لنفس القاعدة. فكل فعل له ردة فعل نفسُها سواءً كان في الغرب أو في الشرق. فالإنسان ردَّات فعله هي نفسُها على الأرجح إذا تشابهت المقدمات أو الأسباب؛ وتتأكد النظرية أو لنقل ترتفع الاحتمالية في الكتل الاجتماعية؛ فعندما ندرس تاريخ تطور الأمم ونمو الحضارة نجدها تقريبا واحدة في جميع الأمم؛ يقرأ مجتمعٌ فيزداد علماً ويزداد ثراءً وازدهاراً ومنعة؛ ويغفل آخر عن النقد العلمي الموضوعي فيسود فيه الجمودُ والتقهقر.
ولهذا إذا أردنا أن نصنع مجتمعاً مبدعاً فلابد من أن نبدأ بتعليمه تقبل النقد العلمي الموضوعي وكيفيته الصحيحة، عندها سيكون قد خطا أول خطوة باتجاه الإبداع والاستقلالية المُعِزة، ولكن هل سيكون ذلك سهلاً يسيراً؟؟؟؟
لا وألف لا طبعاً، وعلى الأخص في تلك المجتمعات التي تحكمها عادات وتقاليد قد اختلطت بالدين، فصار كلُ شيءٍ من الدين وكلُ مخالفٍ للمألوف مخالفاً له وكلُ جديدٍ بدعةً ضالةً شيطانيةً.
فعندما يتقدم عَمْرُ بفكرة ما مخالفة لما مضى فردة الفعل ستنقسم في ذلك المجتمع إلى ثلاثة أنواع:
الأول: نوع يريد أن يثبت خطأ الفكرة بالضرب في شخص المفكر بأي وسيلة كانت، وكأن الفكرة ستموت بتصفية المفكر قِيَمِيًّا؛ ولو عرف هذا النوع أن هذه هي وسيلة الجهّال لما فعلوها ولكن خيّل لهم.
الثاني: نوع يرى خطأ الفكرة ولكنه يحاربها بالسكوت عنها وإبعاد الآخرين عن الاطلاع عليها بأي وسيلة؛ ولا يعلم هذا القسم بأن الأفكار لها عقول متعطشة للحقيقة يتلقفونها ولا ينظرون من أي جهة جاءت أو إلى أي جهة هي ماضية؛ تنمو شيئاً فشيء وتتعاظم حتى تصبح طوفاناً لا يمكن صده.
الثالث: نوع ينتهج النهج النقدي الصحيح فيناقش أصل الفكرة ويثبت أنها خاطئة ببراهين منطقية أو يقوم بتوجيهها واستثمارها في إقامة الصرح المعرفي الصحيح، وهذا هو نهج العلماء والمفكرين السائرين على الصراط المعرفي المستقيم.
وهنا يأتي السؤال؛ من أي صنف مجتمعي الذي أنتمي إليه؟ ومن أي نوع إزاء الفكرة الواردة أنا؟ هل أنا ممن يقبلون النقد العلمي أم ممن يتقبلونه على مضض أم من أولئك الذين يخافونه؟ وهل الصحيح أن أرفض النقد والنقاش والحلول الأخرى والبقاء على الانغلاق الفكري؟ وهل الدين يرفض التفكر ومنتجات الفكر؟ وماذا عن أولادي إن كنت أباً، هل أربيهم على تربيتي المنغلقة؟ أم خلقوا لزمان غير زماننا ولديهم متطلبات علمية ومعرفية تختلف تماماً عن تلك التي كنت أنا بحاجتها في زمني وحصلت عليها فتمسكت بها بقيمي وديني؟