لمسات بيانية  

قال الله تعالى {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}

السؤال: لماذا تم الفصل بين لفظ الجلالة وبين لفظ الرسول (ص) في الآية الثانية (إن الله بريء من المشركين ورسوله)، بينما في الآية الأولى جاء متصلاً (براءة من الله ورسوله)، فما دلالة ذلك وما هي الأغراض البيانية وما هو الوجه الأعرابي لرفع لفظ (رسوله)؟

الجواب
أما فصل لفظ (رسوله) وعدم عطفه مباشرة كالآية السابقة يحتمل عدة أوجه بلاغية:

الوجه الأول:
لإفادة أن البراءة حكم محض مختص بالله سبحانه وتعالى (ولا يشرك في حكمه أحدا)، فقد أمر الله نبيه بتبليغ سورة براءة للناس والنبي (ص) أمر الإمام علي عليه السلام بتبليغها، فلم يجعل لفظ رسوله معه بل جعله في جملة أخرى إشارة لتبعية النبي (ص) لحكم الله.

الوجه الثاني:
لإفادة شدة الحكم وغلظته على المشركين لأن النبي (ص) رحمة للعالمين ففُصل وعدم إشراكه يعني سد باب الرحمة عليهم، فالمقام مقام وعيد وتهديد بدليل الآيات التي تليها (فإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم)، فناسب الفصل وجعله في جملة مستقلة نظيره في الوعيد قوله تعالى (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

الوجه الثالث:
لإفادة قوة الشبه بين الأذان للصلاة وأذان البراءة، فكما أن الأذان يتكون من فصول وكل فصل جملة مستقلة، فالشهادة لم تأتِ متصلة (أشهد أن لا إله إلا الله ومحمدا رسول الله)، بل جاءت منفصلة، وكذلك في البقية فلم يقل (حي على الصلاة والفلاح وخير العمل)، بل جعل كل فصل جملة مستقلة، فكذلك لما كانت البراءة أذاناً ناسب أن تأتى كل جملة وفصل مستقل لبيان عظمة وأهمية كل جزء بجعله جملةً مستقلةً فجاء لفظ الرسول منفصلاً.

الوجه الرابع:
لإفادة التفاوت بين براءة الله والتي هي في مقام الجعل والحكم الاستقلالي (السلطة التشريعية)، وبراءة النبي (ص) في مقام العمل (السلطة التنفيذية).

الخلاصة
يتضح الفرق بين الآية الأولى التي تخبر بثبوت البراءة مع فئة معينة وهم المشركون المعاهدون، بينما الآية الثانية عامة تشمل جميع المشركين.

والآية الأولى ليس فيها تهديد ووعيد وليست أذاناً يجب تبليغه لجميع الناس، كما أن معنى البراءة أضيق وهو انقضاء المعاهدة وعدم إعطاء أمان وعهد للمشركين، بينما الآية الثانية معناها أوسع وهو التبري مقابل التولي، فلذلك وصل لفظ ورسوله في الأولى وفصله في الثانية.

أما الجواب عن وجه الرفع في لفظ ورسوله:
وجه الرفع المشهور هو كونه مبتدأ وخبره محذوف وتقديره (ورسوله بريء من المشركين) بقرينة الآية السابقة.

وهناك أوجه أخرى لن أذكرها طلباً للاختصار وعدم الإطالة.

وهناك نكتة بيانية حتى في الحركة الإعرابية، لأنه لو عطف لفظ (ورسوله) على اسم الجلالة كان حقه النصب بالفتحة لأن المعطوف على المنصوب منصوب ويكون قد اشترك مع ما قبله في الحركة (من المشركينَ) اسم مجرور، ولكن لكونه جمع مذكر سالم لحقته نون مفتوحة للبناء، ورغم أنه لا يقع التباس لأن الفتحة في لفظ (ورسوله) فتحة إعراب والفتحة في لفظ (المشركين) فتحة بناء، إلا أن الله أراد أن ينزه نبيه عن الشبه مع المشركين حتىّ في الاشتراك بحركة واحدة تعظيماً لنبيه (ص).


error: المحتوي محمي