لمسات بيانية

قال تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

ما هو الوجه في الإتيان بصيغة الفعل المضارع (ليعذبهم) مرة، والإتيان بصيغة اسم الفاعل (ومعذبهم) مرة أخرى في الآية الكريمة.

الجواب
إن التفاوت في الصيغة يقتضي التفاوت في المعني، وكما يقول علماء البيان إن الفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار، ويدل على الحال والاستقبال وإذا اتصلت به لام الجحود أفاد شدة النفي وتوكيده، فالإتيان بالفعل المضارع في الجملة الأولى من الآية يدل على أن النفي في الحال والاستقبال، وأنه مستمر واتصلت به لام الجحود لإفادة تشديد النفي وتوكيده، فلا يقع العذاب أبداً والنبي (ص) موجود بينهم فهو الأمان الأكبر للأمة.

والاسم يدل على الثبوت، فالإتيان بصيغة اسم الفاعل يدل على نفي ثبوت وقوع العذاب حالة كونهم يستغفرون للتنبيه أنه الاقل رتبة من سابقه المعطوف عليه.

وبيان ذلك بالتالي:
أولاً لأن الاستغفار رافع للعذاب عنهم ما لم يعودوا لما نهو عنه، فإن رجعوا لاقتراف ما يوجب العذاب قد ينزل عليهم العذب كما في قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، فاستخدم صيغة اسم الفاعل معذبين للدلالة أن رفع العذاب لحين إقامة الحجة عليهم، فإذا أرسلنا رسولاً ولم يؤمنوا يقع العذاب وإن آمنوا لم يقع عليهم فهو مشروط، فكذلك الاستغفار رافع للعذاب ما داموا مستغفرين تائبين بعكس وجود النبي (ص) رافع للعذاب عن أمته بلا شرط شيء فحتى لو استحقوا العذاب لا يقع ببركة وجوه صلى الله عليه وآله وسلّم.

ثانياً أنه ليس كل استغفار يقبل إذا لم تقترن معه التوبة فهو مشروط.

ثالثاً أن الاستغفار عند النبي (ص) سواء في حياته أو بعد مماته موجب لقبول الاستغفار والتوبة قال الله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)، فيكون وجود النبي ص بنفسه رافع للعذاب وبجعله (ص) وسيلة واستغفاره لهم سبب لقبول توبتهم التي هي شرط الاستغفار الرافع للعذاب.

فتكون النتيجة أن النبي (ص) هو الأمان الأكبر للأمة.

وهناك رواية تدل على هذا المعنى، ففي الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، ومفارقتي إياكم خير لكم. فقالوا: يا رسول الله مقامك:
بين أظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا؟ فقال: أما مفارقتي لكم خير لكم فإن أعمالكم تعرض على كل خميس واثنين – فما كان من حسنة حمدت الله عليها، وما كان من سيئة استغفر الله لكم.

الخلاصة
إن الوجه بالإتيان بصيغتين مختلفتين لأجل بيان التفاوت بين الأمانين، وهما وجود النبي (ص) والاستغفار في الرتبة فكأن الحق عز وجل أراد أن يقول: يا محمد أعطيت أمتك أمانين من العذاب، الأول وجودك وهو الأمان الأكبر، والمؤكد والمتحقق في الحال والاستقبال والذي لا يقع ما دمت موجوداً، والأمان الثاني الاستغفار وهو أقل رتبة فمتى ما تابوا واستغفروا رفعت العذاب عنهم وإن كانوا مستحقين له ما لم يعودوا لما يوجب وقوع العذاب عليهم.


error: المحتوي محمي