للرائحةِ ذاكرةٌ غريبةٌ جدًّا، وربّما لها بالخصوصِ في رمضان إحساسٌ عالٍ لا يمكنكَ خلالهُ إلا العودةَ بزمنِك إلى حيثُ الطفولة، وتلك الطوابير التي تصارعُ جوعَها وعطشَها وحرارةَ الأجواء لا سيّما بالقربِ من ذلك المكان الضيّق اللاهب، فتسمعُ أحاديثَهم وقت الانتظار، وتترقّب بعيونهم ذلك الخبّاز الذي تلفحهُ حرارةُ الفرن، وهو يمدّ يديهِ بمنقاشهِ الخاص؛ ليُخرِجَ لهم في شهر الخير ملكَ المائدة، مُقرمِشًا أو طريًا، ويبدأ العدّ حتى يصل للدرزن (اثنا عشر قرصًا) فيسلّمها لمن جاءَ دورهُ بوجهٍ تفرضُ الحرارةُ عليه ملامحَها، ورائحةٍ تتنشقُّها البطون قبل الأنوف، فلا يمنعكَ عنهُ غصبًا إلا صيامك؛ لتعود لداركَ وسفرةٍ تزيّنت بثريدِ ذلك “الخبز العربي” الذي عشقَهُ وعشقَ عالمَهُ الحاج عبد الله محمد العجمي، حتى أصبحَ اسمهُ في هذا العالم كَنار التّنور الذي يخبزُ فيه.
ريال واحد
يُشارِك “العجمي”، المنحدر من مدينة سيهات، أيامهُ وذكرياتهُ التي قضاها في مهنتهِ لـ«القطيف اليوم» فيقول: “دخلتُ عالمَ الخبّازين مبكّرًا، فلم أكد أبلغ الـ13 من عمري حتى التحقتُ بتنّور “جاسم هلال المكنّى بأبي فيصل” بالقرب من كراج “جاسم بشير” في ذلك الوقت، فتعلّمتُ على يديهِ المهنة وبقيتُ أعملُ لديهِ في مخبزهِ لمدة عامين بأجرةِ 30 ريالًا في الشهر، أي ريال واحد ليوميتي، وريال واحد آخر يستبدلهُ لي بـِ12 قرصًا”.
ويمضي في ذكرياته قائلًا: “تركتُ العملَ لدى هلال؛ لأعملَ في المخبز العصري بجانب السوق المركزية بالقربِ من سوق الخضار، والذي كان المخبز الوحيد الأتوماتيكي في ذلك الوقت لمدة تُجاوِز الـ 9 سنواتٍ، إلا أنني فارقتُ بعدها هذه المهنة وأنا بعمر الـ 25 عامًا، لـِمدة 25 سنة بعد انضمامِي للعمل في شركة أرامكو السعودية، حتى تقاعدتُ مبكرًا بسنِّ الخمسين”.
ويضيف: “عاودَني الحنينُ في العام الماضي للعملِ وبالخصوص لمهنتي القديمة، فافتتحتُ مخبزَي الخاص في كراجِ منزلي بحيّ الكويت بسيهات، حيثُ فتحتُ مخبزي ليلًا لاستقبال زبائنِي وجيرانِي، ومحبّي الصالونة بالخبز العربي “الثريد” في شهر رمضان الكريم، لكنّ ظروف الجائحة هذا العام منعتني من مزاولة عملي وكسب رزقي وملء وقتي التقاعدي”.
8 خبازين
عاصَر الحاج عبد الله، المكنى بـ”أبو جاسم”، عصرَ الطيّبين الذين كانوا يمارسونَ كلّ المهن بلا استثناء، وقد اشتهرت منطقة سيهات حينها بـِ 8 من الخبازين، كان “جاسم الهلال” من ضمنهم، والمرحوم “حسين حمود”، وأبناء عائلة “الراشد” أيضًا، فلم يكن هناك خبّازون أجانب قديمًا، بل كانَ الأمرُ مُقتصرًا على أبناء المنطقة، لكنّ الأمور تغيّرت حديثًا، بسبب الدخل البسيط من مهنة الخِبازة، فـ 12 قرصًا وبمردود ريالٍ واحد فقط من الخبز قديمًا، كانت تأخذ وقتَها وجهدَها من الخبّاز لعدم توفّر الإمكانيات المُتاحة حاليًا، كما أنّ عملَ الأجانب في هذهِ المهنة ورحيل بعض المُمتهِنين لها بدون من يخلفُهم، أو حتى تركَها أدّى لقلة الخبّازين السعوديين، بل ندرتهم إن صحّ القول.
دقيقٌ وماء
يمزجُ “العجمي” الدقيق بالخميرة وشيء من السكر والملح وبيكربونات الصودا التي كانت تُسمى قديمًا بتحريف “الصولا” دون مبالغةٍ في وضعها، فالقليلُ منها تُكسبُ عجينةَ الخبز العربي رائحتهُ المميزة، والكثيرُ منها تحوّل لونَهُ للون الأخضر كما يقول، وبذلك تتكوّن المكونات الأساسية لعجينة الخبز العربي التي يعجنُها بيديهِ – سابقًا – لمدة 15 دقيقة للعجن، ثم يتركُ العجينة ترتاح لمدة تُقارب الساعتين، بل كان الخبّازون قديمًا أثناءَ عملهِ في المخبز العصري يعجنون العجينةَ منذُ الليل، ويتركونها ترتاحُ للعملِ عليها صباحًا.
وأكسبهُ العملُ في المخبز العصري خبرةٍ جيدةً في صنعِ العجينة الأخرى التي تفرقُ عن عجينة الخبز العربي بإضافة الحليب فيها وتتشكّل بها الدونات والبريد والصامولي والسيترول الذي اشتهرَ المخبزُ بصنعهِ في ذلك الوقت، فكان يزوّد مدارس القطيف وسيهات والدمام يوميًا بـ30 كيسًا، حيثُ كانت قيمة حبة “السيترول” ربع ريال فقط، و12 حبة من الخبز أو الصامولي بـِ ريال واحد، ليصبح الآن كيس الخبز أو الصامولي 4 أقراص فقط بريالٍ واحد أيضًا!
طشت ألمنيوم
يبوحُ أبو جاسم لـ«القطيف اليوم» ببعض أسرار وخبايا هذا العالم قائلًا: “لقد اختلفت الأدوات التي كانت تُعجن بها عجينة الخبز العربي واختلفت آلاتُهُ تبعًا لذلك، فقديمًا كُنّا نعجن بأيدينا فقط في طشت ألمنيوم، أو بطشتٍ من الخشب بحجم البانيو وأشبه ما يكون بالتابوت تمامًا مع غطاءٍ يغطّيه، أمّا الآن فالعجّانة الكهربائية تقومَ بالعمل نيابةً عنّا”.
وتابَعَ: “أصبحت الفرّادة تساعدُنا أيضًا في فردِ العجينةِ بصورةٍ أسرع، كما أنّنا كُنّا نخبزُ على الحطب أو الكاز فيكتسب الخبزُ طعمًا مميّزًا جدًّا، حتى جاء الغاز والتنور فاستغنينا عن الحطب شيئًا فشيء، واختلفَ الطعمُ تبعًا لذلك، بل إنّ المخبزَ تغيّر أيضًا، فانبعاث رائحة الكاز والحطب تكسب المكان لونًا أسود، واختفى هذا الأمر مع الغاز”.
وأكملَ: “وتقدّر قيمة صنع التنور قديمًا بـِ250 ريالًا، في حين تبلغ قيمتهُ الآن في القطيف 1600 ريال، لكننّي جهزّتُ مخبزي الحالي بتنور من الطين الأحمر من جبل قارة بمدينة الأحساء بـِ 750 ريالًا فقط، وأغلبُ الخبازين يصنعون تنورهم من الحديد منعًا لتشقق الطين، لكنّي عالجتُ هذه المشكلة التي من الممكن حدوثها باستخدام الرمل والملح و(تصدير) التنور كاملًا”.
واستطرد: “اقتنيتُ أيضًا عجانتين من الرياض بمبلغ 1500 ريال، مع العلم أنني شاهدتُ عرضًا لعجانة واحدة ومُستخدمة في الدمام بمبلغ 1500 ريال، كما اشتريتُ ماكينة التحوير بمبلغ 2000 ريال”.
صعوبات
ويستعرضُ “العجمي” الصعوبات التي يتعرّضُ لها الخبّاز في مهنته وتتلخّص في الحرارة التي يبعثها الفرن التي تزدادُ في فصل الصيف، ممّا يسبّب جفافًا وعطشًا، ونادرًا ما تحدث حروق خفيفةً لليد.
ويذكر حادثة طريفة حصلت له مع أحد أبنائه حينما ساعدهُ في عملهِ فترةً بسيطة، فنقصَ من وزنهِ 4 كيلو لكونهِ غير معتادٍ على هذا العمل الشاق كما يصفه، والحرارة العالية كـ”حمام الساونا” الحرارية، على حدّ تعبيره.
أصناف
يحضر “أبو جاسم” الخبز العربي مقرمشًا أو رطبًا بحسب رغبة زبائنهِ بالتحكّم في حرارة التنور، فالرَّطِب يحتاجُ لنارٍ عالية، بينما اليابس أو المقرمش كخبز الرقاق يتطلب نارًا هادئة للاستواء براحتهِ، كما يبرعُ أيضًا في إعداد الخبز العربي بحلتهِ الجديدة من خبز البر الذي يحرص على شراء النوع الممتاز لهُ من الدقيق، وخبز الجبن والزعتر وخبز البر أيضًا، والمخبوزات الأخرى المستجدّة في عصرنا، كالدونات، والسترول؛ والبريد؛ والصمول؛ والتي تُنتج جميعها بنفس العجينة دون اختلاف بينها، لكنّها تتطلّب أفرانـًا كبيرة، كما أنّ مدخولها المادي يفرقُ كثيرًا عن مدخول الخبز.
ويفصل الأسعار قائلًا: “عشرُ مكيالاتٍ من الخبز تُدخل 60 ريالًا، بينما العشرُ مكيالات للدونات تدخلُ ما يفوق الـ 200 ريال، وكيس الدقيق لإنتاج الدونات يكسبُ 400 ريال كمصلحة لبائعه”.
أذان الفجر
ويذكرُ “العجمي” عن أوقات العمل للخبّازين قديمًا، أنّ الخبّازَ كان يفتح بابهُ منذُ الفجر بعد أن يكون قد أشعلَ تنورهِ عند الساعة الثالثة قبل أذان الفجر؛ ليحْمَى التنور؛ لكونهم يعتمدون على الجاز الذي يحتاج وقتًا في إحمائهِ، ويستمر في عملهِ حتى الساعة العاشرة صباحًا، أمّا العصر فلا تجد مخبزًا مفتوحًا.
وتغيّرت الأحوال بعدها فأصبحَ شهرُ رمضان ضرورة ملحّة لفتح الخبّاز عصرًا، فهو موسمٌ خصب للخبّازين -حسب وصفه – والطوابير لا تقلّ في أي وقتٍ تذهب فيه، كما كان بعضُ الناس يدفعون قيمةَ خبزهم شهريًا للخبّاز؛ حتى يمكنهم الذهاب وأخذَ خبزهم اليومي دون الحاجة للوقوف في الطابور.
خبزُ الحجر
انتشرت في وقت الحجر ظاهرة منزلية تمثّلت في شراء النساء خاصةً لآلة الخبز، إلا أن “العجمي” يعتبر أنّها لا يمكنُ أن تعطي نتيجةً كالتنور، والخبز فيها مختلف بشكل كبير جدًا، فالحديد لا يُعطي الخبز مذاقهُ الخاص كما يفعل تنور الطين.
ويضيف: “إنّ الخبز العربي يفرق كذلك عن الأوتوماتيكي بكلّ شيء، ويبقى الخبز العربي متربّعًا على القمة، وصناعتهُ مهنة لا يجبُ أن تندثرَ أبدًا”.