مائدة أمي والدهشة.. 2

تهفو الذات إلى الشعر، شيء ما، يخالجها، يأخذ مساره، مع الأيام، يضعها في تلك اللحظة الفارقة، التي لا تجيء عابرة في أحرفها، المتجسدة في واقعها، لتفتح الشرفة ناحية الوغول في اللذة والاندهاش.

الشاعر، يدير حرفه كيفما أراد، يصيغه في لغة، تجعل المتلقي في غيبوبة انتشاء، فلا يريد للشاعر أن يتوقف، حيث يعيد إلى الكلمة الشعرية، هاجسها الجميل، ودفئها الأجمل.

لا تكاد ترتشف قصيدته، إلا وتكون بين أمرين، أن تغدو مصغيًا، بكل تفاصيل جسدك، ومندمجًا في عمق اللحظة، وهائمًا بالجمال، أو مرددًا معه أحرفه في نشوة لا حد لها، فنبضات شاعرها، تستفز نبضاتك، ليغدو كلاكما شاعراً، كتب وألقى، وأمتع واستمتع.

كم أرى كل هذا في منتج الشاعر حبيب المعاتيق –وسأغترف منه غرفة ماء في ما سيأتي آنفًا – لإثبات ما ادعيناه في المفارقة بين اللذة والمتعة.

من هنا، لا بد من توضيح المفارقة بين المتعة، واللذة في النص الأدبي، كذلك الأعمال الفنية الأخرى – على حد سواء.

اللذة، تأتي خاضعة إلى اللحظة الزمنية، في حين أن المتعة لا تتوقف على اللحظة الزمنية، لتغدو في ذاكرة الشاعر ذاته، وفي ذاكرة المتلقي، إنها ليست بمنأى عن السعادة بالشيء ذاته، والسعادة، الإحساس الداخلي بحالة الانتشاء، والسعد، لما أبصره خارجيًا، متقاطعًا، مع ما عالجه داخليًا.

يذكر الحميدي محمد أن الكاتب لا يعلم مقدار العظمة في نصه، إلا بعد عرضه على الجمهور، وإطلاقه في الفضاء، وبهذا تتحقق له اللذة، كما يرى بارت، الذي جعل الحد الفاصل، هو موته النصي، وذلك عبر إبقائه بعيدًا، ومن ثم تناول العمل الإبداعي بالقراءة، والتحليل والتأويل، وإبراز جمالياته.

عجيب، أيكون الكاتب، مجردًا من الشعور، أيكتب من فراغ عاطفي، أو على أقل تقدير، بشيء من الوجدان، كأنما هو آلة، تمارس فعل الكتابة -أيعقل هذا؟!- وضعت فيها الفكرة، وطلبت منها صياغتها، فلا يعرف اللذة، وتذوقها في لحظة الكتابة، أيكون “روبوت”.

يعلل -ما سبق-: العملية متعلقة أولاً وأخيرًا بالمتلقي، بينما الكاتب تابع له في شعوره ومتعته وتلذذه، فلولا وجوده المتلقي ما كان للكاتب أن يشعر بعظمة منجزه وجماله وروعته، ولا استطاع الوصول إلى اللذة، التي ينشدها، ويريدها عبر ممارسة فعل الكتابة.

لا ينكر أحد دور المتلقي، أكان في إشادته، وتقبل النص، أو في نقضه، ولكن أن يكون باعثًا للذة بالنسبة للكاتب، ثمة إشارة هنا.

الإشادة، وتقبل الجمهور، تدخل الكاتب في السعادة، الامتنان، التحفيز والتشجيع، ويزيد من الثقة بالنفس، وقد تمنحه اللذة في ذلك وقتها، ولكن ليست بمعزل عن لذة ممارسة الكتابة، ولا تنفيها عنه.

يضيف على ذات السياق برائحة الاستنتاج: إذن، المتعة الناتجة عن النص، تأتي أولاً من العملية الكتابية، وهي قليلة، ولا تكاد تظهر، ثم تتضخم مع الأثر القرائي، فتحتل مساحة إضافية، مع ازدياد القراءات، وتسليط الضوء عليه وإبرازه، وهنا تظهر اللذة الحقيقية، وتتضخم، ويشعر الكاتب بفرادة منجزه، وبلوغه مستوى غير مسبوق.

في الاستنتاج، أن المتعة، تأتي من العملية الكتابية، وهي قليلة.

إن الحكم بأنها قليلة غير منطقي، ولا يستند على دلالة برهانية، قد نقول، بأنه توجد، ولكن بشكل متفاوت، أو بنسبة معينة -دون حصرها في عدد معين-، لأن الحكم بشيء، أو بنسبة عدد، لا يتم إلا من خلال بحث وتقصٍ للوصول إليه.

يتابع الاستنتاج: ازدياد القراءات، وتسليط الضوء عليه وإبرازه، وهنا تظهر اللذة الحقيقية، وتتضخم، ويشعر الكاتب بفرادة منجزه وبلوغه مستوى غير مسبوق.

المتعة الحقيقية، ليسن في إبرازه، وبفرادته، المتعة الحقيقية، هي ما يعيشها الكاتب، وما استنتجه -الحميدي- أقرب ما يكون لبهجة الكاتب، لبلوغ منجزه قمم الجبال، ونجاحه.

يا صديقي العزيز “محمد”، الكاتب الناجح، هو الذي لا يغير النجاح في ذاته شيئًا، تنتابه السعادة، لنجاحه، يكتنفه السعد، لإشادة الجمهور، يشعر براحة نفسية، لأن منجزه طبع، لأكثر من طبعة.

نعود إلى الشاعر حبيب المعاتيق – على سبيل المثال لا الحصر – شاعر، يعيش النص في ذاته بكل تفاصيله، يستمتع به قبل رسمه بالكلمات على القرطاس، أو حين يلقيه، ليشعرك أن المتعة، التي يعيشها، هي متعتك، ولذة المعنى والأسلوب، هو أنت، أنت شريك، معه في النص، فلا تنتهي اللغة، وقت سماعها، أو قراءتها، فهي تعيش في ذاكرته، وهذا ما أشعر به، كلما مر على أذني، طائر كلماته، يدخلني الغيمات، كسائح بين يديه، يتجول في عالمه، عالم الجمال والمعنى.

في اللقاء، الذي أجراه في قناة التواصل الاجتماعي “إنستجرام”، أبصرت الشغف الكبير من المتابعين، وهم يتسابقون، ليلقي لهم هذه القصيدة، أو تلك، رغم نسجها من مدة زمنية ليست بالقصيرة.

هل هذه القصيدة، كتبت، ولم يشعر كاتبها باللذة في حينها، متصاعدًا إلى المتعة؟!

ألم ينغرس فيها، لتنبت على يديه ثمارها يانعة، في حين نبصر لدى البعض أن قصائدهم، أشبه ما تكون تركيب كلمات، جوفاء بلا روح، كأنك أمام نظم، وليس قصيدة أدبية، تأخذك من حيث أنت، تسافر بك إلى حيث هي، وأبعد، وأمثاله الكثير.


error: المحتوي محمي