بين رسائل نزار قباني ومراهق في الخمسين!

عندما تتبادل امرأة تجاوزت الأربعين كلمات الحب مع شاب في الثلاثينات من عمره فهذا يعني نسيانها لزمنها المُسْتهلك بالكثير من الإنجازات.

إن الصراعات النفسية التي مرّت بها الممثلة هدى حسين وصديقتها في الدراما الخليجية (شغف) صوّرت مواجهة صارخة لسلوك يبدو غريباً نوعاً ما، أقرّته بتدرّج مُعلنة أزمة قد تُغيّر مجرى حياتها التي رسمتها بإيقاع مُنظّم.

أزمة منتصف العمر من الظواهر التي يمرّ بها الرجل والمرأة على حدّ سواء، وتبدو مشابهة لمرحلة المراهقة، يبدأ زمنها من سن الأربعين إلى خمس وستين عامًا إلّا أن نسبة الإصابة بهذه الأزمة لا تتعدى ٢٦‎% وللإنسان حريّة القرار في أن تنتكس أحواله خلالها أو يُكمل طريق إبداعه الذي اعتاده في فترات حياته السالفة.

ولم يظهر مصطلح أزمة منتصف العمر إلّا في عام 1965م عندما أشار إليه الطبيب والمحلل النفسي إليوت جاك في كتابه “الموت وأزمة منتصف العمر”، ثمّ تطرّق له الكثير بالتحليل والنّقاش وقد صوّره البعض بقالب كوميدي ساخر كما فعل الممثل الراحل عبد الحسين عبد الرضا في مسرحية مراهق في الخمسين التي سردتْ أحداثَ قصة طبيبٍ وربّ أسرةٍ في الخمسين من عمره وقع في براثن حب فتاة صغيرة وبسببها تتصاعد المشاكل في حياته.

لكن باعتقادي أن الفترة الأربعينية من عمر الإنسان هي المرحلة الأسطورية الخارقة للعادة التي يُنجز فيها الإنسان أهم تطلعاته المستقبلية التي لم يسعفه الزمن لإتمامها لثقل المسؤوليات الملقاة على كاهله.

إنها فترة استرجاع لأحداثٍ يتمُّ تقويمها الفعلي وتحديث مجرياتها لتظهر بحلّة جديدة، وتصبح القرارات مجردة من الأخطاء، تُجيد السفر بين زمن وآخر وتقارن بين المكوث أو الرحيل.

المرحلة الأربعينية مرحلة التقويم الذاتي ولكَ الخيار في أن تندثر وتُطوى باجتهادات غير منطقية أو أن تتحول حياتك إلى حياة متوهّجة وتتطور بشكلها الطبيعي حتى تصل لمرحلة النجومية في نظر نفسك، وكما تحبّ أنت رؤيتها عوضا عن تلك الأفكار التي تُشعرك بالندم مثل: ماذا يحدث لو تزوجتُ بزوجة غير زوجتي؟ أو كيف ستكون حياتي وأنا طبيب بدلاً من معلم؟ وكلها من الأمور الغيبية الخاضعة لقدرٍ لا نستطيع الفرار منه.

سن الأربعين بالنسبة للمرأة هو سن النضوج والاستقرار النفسي والعاطفي، حيث تُزهر الأم الزوجة بالعطاء لنفسها بعد أن أغدقت على أبنائها وبذلتْ سنوات عمرها المديد كي تُثمر حياتها وتزدهي في ظل أسرة منحتها استمرارية الحبّ وديمومة العطاء.

لذلك فأنا أختلف مع نزار قباني في رسائله “إلى سيدة في الأربعين” حيث يقول في بعض منها: “إذا ما وصلتِ إلى عامكِ الأربعين، ستفتقدين جنوني، وتفتقدين الرحيل معي في قطار الجنون، وتفتقدين الجلوس معي في مقاهي الجنون”، لماذا يا نزار؟!

لم تعجبني حروفك فقضيت منها وطرًا واستبدلتها بكلمات من نور فسطرتها ربيعاً أزهراً: “إذا ما وصلتِ إلى عامك الأربعين سوف تُزهرين إحساسا بالجمال، وسوف تُنظمين الشعر، وتصادقين الشمس المشرقة، سوف تجددين شرنقتك إبداعا وسموّا”.

وقد يعتبر البعض مرحلة منتصف العمر مرحلة ظهور المِنَح ومحو المِحَن؛ لأنها تحمل بين طياتها ملامح الكثير من الإبداع وتُعدُّ بداية ميلاد إنجازات عظيمة كما هو الحال عند الشاعر النابغة الذبياني الذي ظهرت موهبته الشعرية مع توهّج الأربعينيات فنظم من الأشعار أجملها وعانق القوافي وارتجزها.

وهل أصبح نبيُّ الرحمة صلى الله عليه وآله نبيا مرسلاً إلا في سن الأربعين؟!

عزيزي القارئ إذا كنت في مقتبل حياتك العمرية فأحسن اختياراتك ولا ترضَ ببدائل تلازمك طوال عمرك لأنّك سوف تندم على اختيار بديل كنت غير مقتنعٍ به وسوف تدفع ثمنه الباهظ أجمل سنين عمرك، واجعل مراحل عمرك الزمنية المختلفة تُبحر بسلام من غير أن تخشى الغرق في محيطات الندم.

أما أنت أيها الأربعيني، استثمر عمرك الزاهر وأمسك زمام التغيير للأفضل فأنت في مرحلة الشكر لله تعالى، مرحلة التّمرّد السلميّ.

قال الله تعالى: (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى‏ والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (سورة الأحقاف: آية 15).


error: المحتوي محمي