أماه.. وتلتحفين عمري

يأتي شهر رمضان المبارك هذا العام، على غير عادته، كئيبًا، حزينًا، كقمر حجبته الغيوم، في شتاء عاصف، يأتي وقد غادرت أمي عالمنا، جف نهر حنانها، دعواتها، التي كانت تحيطنا، تنشر شذاها، نفحاتها العطرة، تعبق بأرواحنا، تستفتح يومها بالصلاة لدفع البلاء عنا.

الآن من سيذكرنا ليدعو لنا بعد أن توارى بابها، وحجب ضوء نافذتها؟ لتجف صحراؤنا، غيبها الموت، بقت روحها الطاهرة تظللنا، تسكننا، ترفرف بالقرب منا، رحلت، وبقى شهر الله، يحمل عطرها بين سجادتها، ومصلاها، يفتش عنها، صوتها يرن في أذني، لا تفوتوا شهر الله بمجاهدة أنفسكم، تطويعها، وتهذيبها من خلال البعد عن المعاصي والذنوب.

الرحيل أيتها الغالية، تفر مني أحرفي، كلما أردت الكتابة عنكِ، تغتالني الكلمات، فكل القوافي اختلال أحرفها، والقواميس تمتلئ، لا شيء يفي حقك.

أماه، أنين أشواقنا للقائك، والنظر لنور جبينك الناصع البياض، تلتهب اشتعالاً، حسراتها فور عودتي من السفر لزيارة قبرك، لأشعر بدفئك، أشم ترابه، أناغي ظلها، أبلله بأدمعي الباكيات نحيبًا على فراقك، لكني لم أستطع إلى ذلك سبيلاً، من قال بأن القبر، من يضمك، هو، أنتِ مقبورة في قلبي، الذي لا تبارحيه، شعرت بشوق كبير لرؤيتك، لأقول لكِ: أماه، هل تعلمين، أني قبل دخولي لصحن البيت، ناديت بحسرة، أماه، وأنا أعلم أنكِ لن تردي الجواب، اشقت لأحرف النداء “يا أماه”، علها تعيد لنفسي البائسة، بصيص أمل، أو عناق ظلك.

هل ماتت أمي حقًا، واختفى صوتها للأبد؟ ما زلت أصغي، تناديني “أميرة”، كل صباح، كعادتك، كي أجهز الإفطار، قبل شرب الدواء، ألا تتذكرين؟ أتعلمين أي جرح خلفه رحيلك بقلبي، الذي لم يشعر يومًا باليتم، وأنت تتربعين فيه، هل خلق الله شيئًا أروع من قلوب الأمهات؟ متسائلة مرات عديدة، هل أنتِ معي الآن، ألمح ظلك في روحي، لن أغمضها عيني الآن، لن أغمضها.

ماتت أمي، وها أنا ذا أطوع الليل، لأغرف من دمع أحزاني، لأعيد ذكرياتي معها، منذ كنت طفلة، أبكي وجع أسناني وألمي، يكفيني التصاقي بها، كي أشفى من كلها أوجاعي، كان دعاؤها أن تموت شامخة، وها قد حصل، فلم يمض على بقائها لدي، سوى أسبوعين، لكنها رحلت، وهي لا تعي ما يحدث لنا من حزن ومرارة، كأن الحياة بكل زخارفها وبهرجها، توقفت، فجأة دون سابق إنذار، شامخة أنتِ “أماه”، في قلبي وعيني.

رحلتِ قبل أن تودعينا، قبل أن تمهدي لنا الطريق، كل تفاصيل يومك الأخير تستحضرني، أربع ليال قبل رحيلك، كنت معكِ، نذهب للطوارئ كل ليلة بلا فائدة، لم أدرك بأنك تمهدين للرحيل، بعيدًا عن قلبي، الذي يعشقك، تشعرين بالبرد الشديد، فأدثرك بأهدابي، تلتحفين عمري وتنامين مطمئنة.

قبل رحيلك بيومين كنتِ على غير عادتك، مستلقية على السرير، غاب صوتك الندي، شعرت بحرارة جسمك، أحضرت الكمادة الباردة، وضعتها على جبينك لتلتقطيها تضعينها أسفل بطنك، موقع الألم، بت يومها معكِ بعد عودتنا من طوارئ الدمام المركزي، رفضتِ بقائي بجانبك، أراقبك، وأنتِ تتنفسين بصعوبة، ذهبنا باكرًا للمشفى، لم أكن أتوقع أنه يومك الأخير، سيكون، مر عصيبًا علينا بكل تفاصيله، وما يحتويه من ألم، وجع، وفقد.

عذرًا شهر رمضان، ماتت أمي، وانتهت حكاياتي، أجمل فصول عمري، لا يوجد شيء بعد أمي لأبكي عليه، كل ذكرياتي الجميلة، تستحضرها دمعة، كل الليالي بعدها شتاء قارص البرودة، لأنثرها الدمعات بحرارة فقدك، ألمًا لا يندمل.

آه، أماه لوعة فقدك، تنهش في قلبي، تفتت حنايا روحي، تقلق مضجعي، اللهم نور ضريح أمي، وارزقها الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين.


error: المحتوي محمي