{وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}
من أبرز الظواهر الاجتماعية في المجتمعات البشرية ظاهرة الخلافات والانقسامات، وهي ظاهرة متجذرة في الحياة وملازمة للمجتمعات عبر تاريخها.
فكيف تعاطى القرآن الكريم مع الخلافات والانقسامات التي لا بد لمجتمع أتباعه أن يشهدها عاجلًا أم آجلًا، إن لم يكن في عصر النزول فبالتأكيد بعده.
فالقرآن الكريم وما يمثله من مشروع حضاري ناشئ يدرك تمامًا خطورة أي انقسامات وخلافات تقع بين أتباعه إن هي أضرت بكيانهم ووحدته -خطورتها- على نجاح مشروعه وديمومته، ففي ظل تحديات خارجية تتطلب تضافر الجهود لمواجهتها، فإن الانقسامات والخلافات الداخلية تصيب مشروع القرآن في مقتل، من هنا انبرى القرآن الكريم ليتصدى لهذه الظاهرة بحزمة من التعليمات المتكاملة بدءًا بالوقاية منها وانتهاءً بتقديم حلول لها.
1- بيان الهدف والمسؤولية
فجمع الناس على أهداف مشتركة عامل أساسي في وقاية المجتمع من الانقسامات وتجنيبه النزاعات، ركز القرآن الكريم في أكثر من موضع على الهدف الرئيس الذي من أجله دعا الناس إلى الإيمان به والمسؤولية التي ينبغي أن تضلع بها جماعة المؤمنين لبلوغه.
قال تعالى مبينًا الهدف والمسؤولية {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، “ولتكن منكم أمة” بهذه العبارة بين القرءان لأتباعه المسؤولية الملقاة على عاتقهم.
2- الاتحاد ونبذ الفرقة
وضمن تأكيده على أهمية الاتحاد، عد القرآن الكريم اتحاد المؤمنين أساسًا من أسس الإيمان، وأنه لا مجال لمسامحة المفرطين فيه. قال تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (103) سورة آل عمران، في الوقت الذي دعا فيه إلى الاتحاد نهى فيه عن الفرقة.
3- بيان التحديات الخارجية
حرص القرآن الكريم على تنبيه أتباعه للتحديات والتهديدات الخارجية التي تواجههم وما ينبغي عليهم حيالها، قال تعالى {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوالْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (120)، وقال تعالى {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (98)، فالتنبه إلى الأخطار الخارجية يرفع مستوى الوعي ويقلل من فرص الخلاف الداخلي.
4- التحذير من الانقسام والخلاف
حذر القرآن الكريم في عدة آيات من الوقوع في الخلافات والانقسامات الضارة بوحدة كيان المؤمنين به، مبينًا مفاسدها وأضرارها، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (159).
٥ – التثبت قبل تحديد الموقف
مما يؤدي إلى حدوث الخلافات هي القرارات والمواقف التي تبنى على معلومات خاطئة أو غير مؤكدة، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
6- وضع آليات الحل
إن وقوع الخلاف والانقسام في المجتمع أو الأمة أمر لا يمكن تجنبه، إلا أن الأسوأ من وقوعه هو تركه دون معالجة، والقرآن الكريم لم يترك هذا الأمر بل وضع آليات العلاج وقدم الحلول.
ا- الرجوع إلى القرآن على اعتباره مرجعية الجميع.
ب- إسناد القيادة إلى الصادقين المتقين، قال تعالى {كونوا مع الصادقين}، وقال تعالى {إن أولياؤه إلا المتقون}.
ج- التدرج في الحل، فلا يلجأ إلى الطرق الأصعب قبل استنفاد ما دونها من وسائل أخرى، قال تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10).
لو أن المسلمين اليوم اعتمدوا المنهج القرآني لتلاشت الخلافات بينهم ولجنبوا مجتمعاتهم الكثير من المعاناة ولوفروا على أنفسهم الكثير من الخسائر البشرية والمادية.