من تاروت.. المعتر تغزل وتخيط وتنقش الحناء.. ثلاثُ صنائع والبخت محفوظ

إذا سمعتَها تشعرُ أنّ الزمنَ قد توقف عندَ شبابِها، فإذا رأيتَها يُخيّلُ لك أنّكَ أمام شخصٍ من الجنة {وتحيّتُهُم فيها سلامٌ}، فهي لا تستنكِفُ عن الترحيبِ والتهليل بِك وكأنّكَ غاليها.

تجاوزت الستين من عمرِها، لكنّ يدَها فتيةٌ شابة بِما تُنجزُه.

ضاعَ من ذاكرتها أحداث، وسقطَ منها أشخاص، ولا يزالَ الباقي فيها يصلحُ أن يُخلّد.

بيديها تعجنُ حنّاء العرائس، وتخيطُ ثيابَ العجائز، وتغرزُ بخانقَ الأطفال، وتطرّز وسادات المجالس، وبين يديها فنٌّ لا تعلمُ مدى قيمتهُ الآن، ففي أناملها حكاية الماضي الجميل الذي لم ترث منهُ مالاً ولا جاهًا، لكنّها ورثت مهنةً تُنافسُ آلات بل وتفوقُها إبداعًا، حرفيّةٌ دقيقةٌ وكأنها تخضعُ أعمالها لمقاييس وشروط، وما زالت يدي “أم علي المحاسنة” المليئة بخطوط الزمن تنسجُ ما تنسج وتحيكُ ما تحيك حتى شاركت الشابات أعمال الكروشيه أيضًا.
“الحاجة حصة حسن المعتر والمُكنّاة بأم علي”، روايةٌ لا تنتهي وكنزٌ من كنوز “تاروت” المخبّأة بين جدران بيوتِها العتيقة وحاراتِها الضيّقة وناسها الطيبين.

وراثة
نشأت أم علي في بيئة مترفة بالعمل والمِهن المختلفة، فجدّتُها لأمِّها كانت تخيطُ وتحجمُ وتغسل الموتى، ووالدتُها كانت خيّاطةً ماهرة وطبيبة بلا مستشفى، فكانت تفصل وتحجم وتجبرُ الكسور باستخدام الصمغ العربي والبيض وألواح ضعيفة من الخشب وقماش الخام، لكنّ أم علي لم يستهوِها من تلك المهن غيرَ الخِياطة، التي دخلت قلبها “على حدّ قولها” وبدأت تبدعُ في هذا العالم الحرفي.

بخانق
بدأت الحاجة حصة خياطة الملابس كأمها بيديها فقط، فقد كان الناسُ فقراء في ذلك الوقت ولم يكن بإمكانهم امتلاك ماكينة الخياطة، واجتهدت أن تتعلّم كلّ ما كانت تخيطهُ والدتُها في ذلك الوقت بعد أن تركت المعلّم رغمَ محاولات والدتها إبقائها فيها، فأخذت تخيطُ البخانق والسراولة والثوب الهاشمي ومخدات المجالس وثياب الرضّع، والمشغول، والبكشات التي تُستخدم في حفظ أدوات الزينة، والشيلات التي كانت تتغطّى بها النساء لا سيّما كبيرات السن، ومع الوقت توسّعت أكثر فأصبحت تخيطُ المشامر وثيابَ البنات ونفانيفهن كما يصفُونَها وإحرامات الحج.

4 ريالات
كانت أم علي تفرّغ نفسها لخياطة سروال العجوز الذي تطلبهُ منها 4 أيام متتالية بعد أن تنسجَ عليهِ زخارفهُ المعروفة والمشهورة في وقتهِ بكل حرفيةٍ وإبداعٍ بيديها فقط؛ لتستلم أجرتها عليه 4 ريالاتٍ لا غير، حيثُ تُعدُّ في ذلك الوقت “خيرات الله” على حدّ تعبيرها، لكنّ عاملَ الزمن رفعَ من شأنهِ كثيرًا فأصبحت قيمتهُ 100 ريال! وصولًا إلى 120 ريالًا!

وخاطت كذلك الثوب الهاشمي البصري للعجائز كذلك بنصف ريال فقط، بينما ثوب الطول الأطول منهُ والمشامر كذلك فكانت تخيطُها بريالٍ واحد، وكان إنهاءُ البخنق وهو الغطاء الذي تتزيّن بهِ البنات قديمًا في المعلّم والمناسبات ويأتي بألوان عدّة مفرحة كالأزرق والأخضر والأصفر والأحمر والأسود الغالب، يتطّلبُ منها وقتًا أطول من السروال، حيثُ يسرقُ من وقتها أسبوعًا إلى أسبوعين لعدم تفرّغها التام للخياطة وانشغالها بمسؤوليات البيت والأبناء، ولقد تعلّمت النغزة أو الغرزة بتعبيرنا الآن التي تزيّن لها البوشيات بخيوط الزري من صديقاتها من أهالي سنابس اللواتي ساكنتهُن 11 عامًا واستلهمت منهنّ براعتهن في ذلك، فلم تكن والدتها التي ورثت منها الخياطة تجيدُ هذا الفن، وكُنّ يجلبن خيوطهُ الخاصة من الزري الملوّن من دولة البحرين.

أول ماكينة
تسردُ أم علي حكايتها بامتلاك أول ماكينة لـ«القطيف اليوم» فتقول: “امتلكتُ أولَّ ماكينة يدوية في حياتي هدية من زوجي أبو علي، وقد كنتُ حينَها في الخامسة عشرة من عمري ولم أنجب بعد، حيثُ أهداني إيّاها بعد أن اشترَاها من القطيف وجاء بها لي حاملًا إياها على كتفيه مشيًا على الأقدام، فأصبحت أخيطُ لبناتي وقريباتي، بل وفصّلتُ كذلك لأولادي الصبيان ثيابًا وقمصانًا وخطتها لهم، كما كانت الجارات والنساء أيضًا اللواتي يسمعن عني يأتين بأقمشتهن لي”.

وتضيف: “وكانت الخياطة مصدر استمتاعي في الحياة، فقد جمعتْ لي الجارات والقريبات في منزلي وأنا أخيطُ بيدي البخانق وأنسجُ زخرفة السراولة نهارًا ونحن نتبادلُ الأحاديث المختلفة، وما إن يأتي الليل حتى أكملَ خياطتي على الماكينة التي لا أحبُّ العملَ عليها في وسطِ اجتماعنا نهارًا لإزعاجها”.

وتابعت: “لم ألجأ إلى الخياطين حتى بعد ظهورهم وانتشارهم وعزوف بناتي عن خياطتي لملابسهن مع تطوّر هذا الزمن، فبقيتُ معتمدة على نفسي، ولم أضطر إلى الخياطين إلا مؤخرًا بعد تراجع صحتي عن السابق، ومع ذلك فهذا الأمر نادرٌ جدًا”.

مكة
بحثت أم علي عن أجود الخيوط للنسج والخياطة بعد أن كانت تعتمدُ على الخيوط التي تسحبُها أو تسلسلُها، على حدّ وصفها، من الشيلة السوداء التي تتغطّى بها الكبيرات قديمًا، وعثرت على ضالتها في مكة المكرمة بخيوط السامتين السوداء والملونة، فأصبحت تشتري بالكميات حينما يوفّقُها الله تعالى للذهابِ إلى مكة المكرمة وتحتفظ بها.

أمّا عن الأقمشة التي كانت تستخدمُها لإحرامات الحج، فكانت تعتمدُ على الخام والبافتة، في حين تستخدم القطن كبطانة للسروال والحرير لوجههِ، والتولُ كان هو القماش المستعمل للبخانق، وقماش البصري والتول للثياب الهاشمية.

نقشُ الحناء
ورثت أم علي مهنة الخياطة من والدتها، لكنّها امتهنت مهنةً أخرى تعلمتها بنفسِها منذُ كانت صغيرة لم تتزوج بعد، وهي مهنة “الحناء”، وتطوّرت في مهنتها هذه فأخذت تحني العرائس أيضًا، فتبدأ بطقوسِها المعتادة بعجن العجين الخاص بحنّاء العروس بالدقيق والماء والزيت، ثمّ تعجنُ الحنّاء الخاص بالعروس بالماء البيدر والليمون وقليل من البنزين، وتصنع من العجين خيوطًا دقيقة تنقش بها أيدي العروس ورجليها، وحينَ تنتهي تضعُ الحناء عليها، وحين يجفّ يظهر مكان العجين فارغًا لتبان الزخرفة التي عملتها أم علي بيديها والتي أصبحت الآن يستعاض عنها بالأقماع الخاصة للعجين، وتحنّى العروس لثلاثة أيام وتُقرأ عليها ثلاثة موالد.

باب النجّار
قد يصدق المثل القائل “باب النجار مخلوع”، فرُغم هذهِ المهن التي زاولتها أم علي، وما زالت تزاولُها رغم قلّتها حاليًا واقتصارها على من تعزّ، إلا أنّها لم تورثها لابنتيها التي شاءت إرادةُ الله تعالى أن تحرمَها من إحداهما، فقد انشغلتا بمدارسهما، لكنّ قلبيهما لليوم مكللات فخرًا بإبداع ومهن وفنون والدتهما أم علي وصيتها الجميل.

 


error: المحتوي محمي