المعطف – نقولاي غوغول (2/2)

من المفارقة أن يغوص في أسبار هذه الطبقة المسحوقة بهذا العمق الداخلي الدفين واحد من طبقة أخرى، بل من الطبقة النبيلة على أرض وفي زمن تمثل فيه الطبقية الأساس الاجتماعي الأول الذي ينظم الحياة. وحسناً فعل الكاتب في تمرير أطياف من المواقف الإنسانية الخيرة لتغيير طعم السوداوية التي تغلف الرواية، فعندما تبرع أحد المشرفين بإقامة حفلة بمناسبة المعطف الجديد، إنقاذًا للموقف الذي وقع فيه أكاكي عندما طالبه زملاؤه في العمل بحفلة نظير المعطف الجديد أو الذي بدى جديداً بنظرهم، فيما كانت ردة فعل أكاكي المتعففة وكأنه يقول إنني لا أستحق حتى حضور تلك الحفلة التي أقيمت لأجله، فهة لم يعتد في حياته على مثل هذه الأمور ولا يرى لها أي اعتبار في كوكبه الخاص.

دفعتني رواية المعطف لتذكر قصة معطفي أيضا الذي اشتريته مضطراً قبل أكثر من خمسة وعشرين عامًا أثناء رحلة في إحدى دول الثلج، فبسبب تغير الجو فجأة للبرودة القاسية ونحن نتسوق في أشهر شوارع تلك المدينة وأنا بملابس صيفية، اضطررت لدخول أقرب متجر ملابس لأشتري معطفاً مناسباً لي، لكني لم أجد سوى بالأسعار التي قد تخلخل ميزانية تلك الرحلة بل وبلغة محاسبية قد تهز حتى الاحتياطات النظامية وغير النظامية لميزانية تلك الرحلة وقد تحرمني من حرية الحركة والاستمتاع بباقي مدة الرحلة التي كنت في أول أيامها، قررت عدم الشراء والخروج من المحل، ولكن لم أستطع مقاومة تلك البرودة سيما أن السكن بعيد عن هذا الشارع التجاري فاحش الغلاء، مما اضطرني للعودة مرة أخرى وشراء ذلك المعطف على مضض.

القاسم المشترك بين معطفي ومعطف أكاكي هو أن معطفي مازال جديداً كما أراه أنا وأريد أن احتفظ به لأبعد مدى، فما زلت أتذكر لحظة اختلاط برودة الطقس في جسمي بحرارة السعر في جيبي، فيما حبيبة القلب لها رأي آخر فيه، باعتباره قديمًا لا يليق بي الآن، رغم ندرة ارتدائي له، وهي مازالت تتحين الفرصة للتخلص منه هو فقط!

مواقف كثيرة مرت على أكاكي تبعث على الحزن والأسف، فكيف لإنسان يعيش كل حياته في مدينة ولا يغير الطريق الذي أعتاد أن يسلكه من بيته لعمله طوال مدة عمله، للدرجة التي لم ير فيها الحي الراقي الذي بجانب حي الفقراء الذي يعيشه، وكيف لإنسان لا تحدثه نفسه أن يخاطبها ويطرح عليها تلك الأسئلة الجنونية وغير الجنونية، وكيف لإنسان لم يتحدث عن نفسه إلا عندما وجد نفسه مضطراً للحديث أمام الضابط المهم الذي أراد أن يشرح له كيف سرق معطفه، وكيف وكيف وكيف…

لقد كانت لحظة سرقة المعطف من أكاكي تمثل منفردة جرعة زائدة للإفاقة من سبات تلك السنين، أما أن يكون مضافًا إليها السلوك الفظ وغير المتوقع من قبل الضابط الرفيع الذي ما أن تمت ترقيته حتى تغير كل تعامله الطيب، فهذا أشبه بسلاح كيماوي مزدوج التأثير عليه.

إن النفس البسيطة الممزوجة بالطموحات المتواضعة هي منتج هزيل وعقيم، لا يمكنها العيش لنفسها فضلا عن أن تكون لها القدرة وهي ميتة على مطاردة الأرواح الشريرة التي أصبح سكان سان بطرسبيرج يزعمون أنها روح أكاكي.


error: المحتوي محمي